أى عروبة نريد؟ – الحائط العربي
أى عروبة نريد؟

أى عروبة نريد؟



كشفت أجواء المونديال العالمى لكرة القدم الذى أنهى أعماله مؤخراً فى قطر عن ثلاث ظواهر شديدة الأهمية, الظاهرة الأولى أن مزاج الشعب العربى من المحيط إلى الخليج «مازال عروبياً» بامتياز. الظاهرة الثانية أن فلسطين مازالت مستحكمة بالضمير والعقل العربيين، وأن العالم على استعداد هو الآخر للاستجابة لهذا التوجه العربى بقدر قوة واستمرارية هذا التوجه العربى. أما الظاهرة الثالثة فهى أن الثقافة العربية – الإسلامية بمقدورها أن تحظى بالاحترام والتقدير العالميين إن هى أجادت التعبير عن نفسها. وجاءت مخرجات ونتائج القمة العربية – الصينية التى عقدت بالمملكة العربية السعودية (9/12/2022) وما سبقها من قمتين أخريين مع الصين، واحدة سعودية والأخرى خليجية (8-9/12/2022) لتضيف ظاهرة رابعة وهى أن الصين تقدم للعرب، وللمرة الأولى منذ سقوط النظام العالمى الثنائى القطبية، فرصة تاريخية للانعتاق من التبعية المذلة للغرب خاصة للولايات المتحدة، والنهوض كشريك فاعل فى منظومة التفاعلات العالمية. هذه الظواهر تضعنا أمام حقيقة مهمة وهى أننا، كعرب، نعيش لحظة فارقة فى تاريخنا تقول إنه «لم يكن هناك زمن كانت فيه الحاجة ملحة إلى (العروبة) كما هى الآن». هذه الحقيقة تؤكدها حزمة من التطورات العالمية والإقليمية تقول كلها إن هذا هو أوان التوجه نحو إطلاق مشروع وعى جديد فى منطقتنا يستند أولاً وأخيراً على تحديث واستنهاض دعوة «العروبة». أول هذه التطورات هو ذلك الصعود الحضارى الآسيوى مقابل الانحدار والتهاوى الحضارى الغربى. صعود حضارى آسيوى مدعوم بنهوض قوى آسيوية كبرى اقتصادياً وعسكرياً خاصة الصين والهند واليابان. وانحدار حضارى غربى خاصة فى «منظومة القيم» الأخلاقية مصحوب بتهاوى وأفول المشروع الأمريكى المتحالف مع أوروبا. كل الإحصائيات والشواهد تؤكد أفول المشروع الأمريكى. إلى جانب هذا التطور المحورى تجيء تطورات أخرى لا تقل أهمية مثل الكارثة البيئية ومثل الثورة التكنولوجية خاصة ثورة الاتصالات لتؤكد أن العرب مجتمعين يمكنهم التفاعل بإيجابية مع هذا النوع من التحديات العالمية، وهى تحديات تفوق قدرة أى دولة عربية منفردة. اللافت هنا أن العالم الإسلامى يشهد العديد من مشاريع النهوض لأمم إسلامية مثل إندونيسيا وماليزيا وإيران وتركيا وتبقى الأمة العربية حالة منفردة من الانفراط والتراجع الحضارى. إذا كان مشروع النهوض العروبى هو «الخيار الحضارى – الاستراتيجى» الأوحد أمام العرب فعن أى عروبة نتحدث، وأى مشروع عروبى نريد؟ فالمشروع العروبى المستقبلى الذى نعنيه لكونه «مشروعاَ حضارياً، وهكذا يجب أن يكون، فإنه بالضرورة يجب أن يكون «مشروعاً شعبياً»، لأن العروبة التى نريدها «جديدة وتحديثية»، هى القوة التاريخية الوحيدة القادرة على تمكين الأمة العربية، بكل مكوناتها، من ولوج فجوة التبعية إلى الانعتاق نحو مستقبل حضارى تكون فيه الأمة قادرة على صنع التقدم وامتلاك أدواته، وأن تكون شريكاً فى صنع المستقبل العالمى كغيرها من الأمم التى انخرطت فى مشروعات النهوض. ولكى تستطيع الأمة العربية ذلك عليها أن تبدأ أولاً بثلاث مصالحات تاريخية, المصالحة الأولى مع الدولة الوطنية العربية التى تعرف عادة بـ «الدولة القطرية» ومع الهويات الوطنية فى الدول العربية. فالتناقض الغريب الذى سبق أن استحكم بالفكر القومى، سواء فى عهده الرومانسى أو فى عهد الدول التى اعتنقت الهوية القومية العربية والفكر الوحدوى بين الدعوة إلى الوحدة العربية أو الاتحاد العربى وبين الدول الوطنية العربية أساء للدعوة الوحدوية بقدر ما أساء للدول الوطنية. فالدول الوطنية القوية والمتماسكة بهوياتها الوطنية ليست عقبة فى قيام الوحدة العربية، بقدر ما هى أهم مقوماتها. حقيقة ذلك تتأكد من الأخطار التى تتعرض لها دول عربية حالياً من دعوات لإعادة التقسيم على أسس طائفية أو دينية أو عرقية، ورفع شعارات لهويات فرعية وكيف أن هذه الدعوات بقدر ما هى خطر على استمرارية وبقاء الدول العربية والحفاظ على وحدتها بقدر ما هى خطر يهدد أمل تحقيق الوحدة العربية. المصالحة الثانية مع الثقافة والحضارة الإسلامية، والعودة إلى التلاحم بين العروبة والإسلام، فالمشروع العربى من المستحيل أن ينجح وأن يحلق بجناح واحد، مستحيل أن تتحقق نجاحاته بالعروبة دون الإسلام إذا كنا نتحدث عن مشروع حضارى له هويته الحضارية، وهنا من الضرورى التمييز بين هذه الدعوة وبين العلاقة مع مشروعات ما يعرف بجماعات «الإسلام السياسى» التى لها مشروعها الذى ينكر بل يكفر المشروع القومى العربى. هذه المصالحة كانت الفكرة المحورية فى المؤلف المهم لأستاذنا الدكتور عصمت سيف الدولة المفكر القومى المرموق الذى حمل عنوان «العروبة والإسلام» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت. هذه المصالحة تعنى قطع أى علاقة بين الدعوة القومية العربية وبين ما لحق بها من اتهامات فى عهدها الرومانسى من عداء للدين، والتقاء مع العلمانية بمفهومها الشائع وغير الصحيح. أما المصالحة الثالثة فهى مع العالم من منظور الوعى بحقائق التطورات العالمية وما يشهده العالم سواء على صعيد الثورات العالمية المتزامنة: ثورة العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة وثورة الاتصالات، أو على صعيد التنافس على هيكلية النظام العالمى من أجل إقامة نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب أكثر عدالة وديمقراطية ، عالم تلعب فيه الحضارات الشرقية أدواراً فاعلة، يجب أن يكون مشروعنا القومى جزءاً أساسياً منه وغير منعزل عن تفاعلاته، بالشكل الذى يجعل هذا المشروع شريكاً فى تلك التفاعلات، وأن يعيد للحضارة العربية الإسلامية مكانتها التاريخية.

على ضوء هذه المصالحات الثلاث تتحدد معالم ما نريده من «عروبة جديدة تحديثية» على أساس من هوية قومية عربية متجددة. هذه العروبة يجب أن ترتكز على دعامتين أساسيتين، أولاً أن تكون ديمقراطية متحررة، وأن تكون ثانياً دعوة شعبية بالشعب وللشعب وليست دعوة سلطوية أو حتى نخبوية، طالما أنها تستهدف التأسيس مجدداً لمشروع حضارى للنهضة . يبقى السؤال الأهم وهو ما هى مقومات هذا المشروع الحضارى الذى نأمل تحقيقه من خلال الدعوة للعروبة الجديدة التحديثية؟ هذه هى قضيتنا المحورية.

نقلا عن الأهرام