استضافت العاصمة الإسبانية مدريد، في 17 مايو الجاري، اجتماع اللجنة المختلطة المغربية-الإسبانية المكلفة بتوفير أفضل الظروف لإجراء عملية “مرحباً 2023″، والتي تتضمن سلاسة التنقل والأمن والسلامة، وتدابير المساعدة والقرب بين الدولتين، فضلاً عن تدابير الوقاية الصحية واليقظة. واكتسب الاجتماع أهمية خاصة كونه يأتي في ظل التطور اللافت في العلاقات بين الدولتين، والتي وصلت إلى مستوى غير مسبوق، بعد تراجع مدريد عن خطابها المتشدد تجاه قضية الصحراء، حيث اتخذت حكومة بيدرو سانشيز في العام الماضي خطوات في الاتجاه العكسي من خلال التخلي عن انحيازها لجبهة البوليساريو، وتبني خطاب داعم للسياسة المغربية، وظهر ذلك في تأييد خطة الرباط لعام 2007، بمنح الحكم الذاتي للإقليم.
خطوات متبادلة
شهدت الفترة الأخيرة تقارباً ملحوظاً بين مدريد والرباط، فقد أظهرت التحركات الأخيرة لحكومة بيدرو سانشيز اهتماماً واضحاً بالتكريس لمكانة إسبانيا في منطقة المتوسط وشمال إفريقيا؛ حيث قام رئيس الوزراء الإسباني بزيارة المغرب في 1 و2 فبراير الماضي. كما سبق هذه الزيارة إعلان مدريد تأييد خطة الحكم الذاتي التي تقترحها المغرب لحل النزاع حول قضية الصحراء، باعتباره “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.
من جهتها، احتضنت المغرب، في 1 و2 فبراير الماضي، عشية زيارة سانشيز للمغرب، الدورة الثانية عشر لاجتماع اللجنة العليا المغربية-الإسبانية، حيث شهدت توقيع 19 اتفاقية تعاون بين حكومتي الدولتين. كما ناقش مسئولو الدولتين خلال الزيارة عدداً من الملفات المهمة، مثل التنسيق الأمني، والهجرة غير الشرعية، والطاقة. ويُشار في هذا الصدد إلى أن مدريد وافقت مؤخراً على فتح خط ائتمان قيمته 800 مليون يورو لاستثمارات إسبانية في المغرب، وتوقيع 20 اتفاقية تشمل تطوير الطاقة المتجددة، وبناء محطات لتحلية المياه.
كما تعول الرباط على استيراد الغاز الطبيعي المسال عبر إسبانيا، إذ سمحت مدريد باستيراد الغاز عبر خط الأنابيب المغربي-الأوروبي “جي إم إي” الذي كانت الجزائر تستخدمه لتصدير الغاز إلى أوروبا. في المقابل، قام وفد ثقافي إسباني بزيارة إلى المغرب، في 19 مايو الجاري، ضم المدير العام للتخطيط والإدارة التربوية الإسباني خوسيه مانويل بار سيندون، برفقة وزيرة التربية والتعليم ماريا أنطونيا تروخيو؛ حيث تمّت زيارة المراكز التعليمية الإسبانية التابعة لوزارة التربية والتعليم في كل من الرباط وطنجة والعرائش وتطوان والحسيمة والناظور والدار البيضاء، كما أجريت مباحثات حول سبل تعزيز التعاون المشتركة في المجال الثقافي والتعليمي.
أسباب مختلفة
يمكن تفسير اهتمام الرباط ومدريد بعقد اجتماع اللجنة المختلطة المغربية–الإسبانية وتطوير العلاقات الثنائية، في ضوء دوافع متعددة يتمثل أبرزها في:
1- مواجهة عمليات الهجرة غير الشرعية: لا يمكن فصل التقارب الملحوظ في العلاقات بين مدريد والرباط عن الرغبة المشتركة في ضبط ومكافحة عمليات الهجرة غير الشرعية التي تفرض تهديدات مشتركة للجانبين، حيث تتخذ المغرب إجراءات أمنية مشددة في المناطق الحدودية مع إسبانيا، على نحو كان له دور في تغير مسارات الهجرة غير النظامية بالمنطقة، بالإضافة إلى تراجع أعداد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، حيث انخفض وصول المهاجرين غير النظاميين من المغرب إلى إسبانيا بنسبة 30% في عام 2022، وتراجع في الربع الأول من العام الجاري بنسبة 50%.
2- تحصين الموقع السياسي الداخلي: ترتبط مساعي رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بدعم العلاقات مع المغرب، بالحرص على تعزيز موقعه السياسي قبل الانتخابات التشريعية التي سوف تجرى في 10 ديسمبر القادم. وفي ظل مخاوف الحزب الاشتراكي بقيادة سانشيز من صعود شعبية حزب الشعب اليميني، بالنظر إلى التراجع الحادث في المؤشرات الاقتصادية؛ يمثل تطوير العلاقات مع المغرب ورقة مهمة في المشهد الإسباني. ويبدو أن سانشيز يعول على تلك العلاقات في تحقيق إنجاز داخلي، يمكن من خلاله تعزيز القدرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية، والاستفادة الدعائية من دور الرباط في مكافحة الإرهاب والتطرف والجريمة السيبرانية، ومختلف صور الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، بما فيها المخدرات.
3- مواصلة تأمين إمدادات الطاقة: تمثل إمدادات الطاقة وتأمينها محدداً مهماً في السياسة الخارجية المغربية تجاه مدريد، فقد تحولت الطاقة إلى القضية الرئيسية للسياسة الخارجية المغربية في الآونة الأخيرة، بسبب تصاعد الأزمة مع الجزائر، التي قررت في 31 أكتوبر 2021، عدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يزود إسبانيا بالغاز الجزائري مروراً بالمغرب، وهو الخط نفسه الذي كان يزود المغرب بمعظم احتياجاتها من الغاز.
وفي هذا السياق، تعول الرباط على مدريد في تلبية احتياجاتها من الغاز المسال. وحسب تقديرات عديدة، فقد ارتفعت واردات الأولى من الغاز المسال من الثانية عبر خط أنابيب الغاز المغاربي-الأوروبي إلى مستويات قياسية، حيث انتقلت من 60 جيجاوات/ ساعة في يونيو 2022 إلى 820 جيجاوات/ ساعة في مارس الماضي.
4- دعم المصالح الاقتصادية المشتركة: لا يمكن إغفال دور المتغير الاقتصادي في تفسير التطور الحادث في العلاقات المغربية-الإسبانية، فبينما تعد إسبانيا هي أول شريك تجاري للمغرب على مستوى الصادرات والواردات معاً، فإن المغرب هى ثالث شريك تجاري لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوروبي بعد الصين والولايات المتحدة، وأول وجهة للصادرات الإسبانية في إفريقيا والعالم العربي.
وبحسب تقارير عديدة، فإن حجم التبادل التجاري بين الدولتين وصل إلى أكثر من 19 مليار يورو خلال عام 2022، بزيادة أكثر من مليارى يورو عن عام 2021. كما أن هناك نحو 700 شركة إسبانية تستثمر في السوق المغربية.
تفعيل الدور
في النهاية، يمكن القول إن التحركات الإسبانية والمغربية تُظهِر اهتماماً واضحاً بسعى الدولتين إلى تعزيز حضورهما في مناطق النفوذ التي تمثل أولوية خارجية لكل منهما، ففي الوقت الذي تراهن المغرب فيه على توظيف العلاقات مع مدريد لتعويض التوتر الحادث في علاقاتها مع فرنسا، ومن ثم تكريس دورها في أوروبا؛ فإن مدريد في المقابل تسعى لتكريس مكانتها في منطقة المتوسط وشمال إفريقيا. وهنا، يمكن تفسير كثافة التحركات الإسبانية خلال الفترة الأخيرة باتجاه تطوير العلاقات مع الرباط.
واللافت أن هذه التحركات تعكس قناعة الدولتين بأهمية تطوير التقارب بينهما، وأن متانة العلاقات تسمح لكل منهما بتحقيق اختراق وتقدم في مناطق نفوذ خارجية مهمة لكل دولة، فضلاً عن أن تقاربهما يوجه في الوقت ذاته رسالة إلى القوى الأخرى بأن لديهما القدرة على التأثير في الإقليم.