احتواء الضغوط:
أهداف زيارة المبعوث الفرنسي إلى ليبيا

احتواء الضغوط:

أهداف زيارة المبعوث الفرنسي إلى ليبيا



جاءت الزيارة التي قام بها المبعوث الفرنسي إلى ليبيا بول سولير، في 31 أغسطس الفائت، في توقيت هام. إذ تواجه فرنسا تحديات الحفاظ على نفوذها ليس فقط في غرب أفريقيا، ولكن أيضاً في شمال القارة. ويبدو أن المساعي الفرنسية في هذا الصدد تتعقب التحركات الروسية في أفريقيا، حيث تأتي زيارة المبعوث الفرنسي إلى ليبيا بعد أيام قليلة من زيارة الوفد العسكري الروسي للأخيرة، فيما تشير الزيارة إلى تنسيق أمريكي-فرنسي في ليبيا في مواجهة روسيا، حيث التقى المبعوثان الفرنسي والأمريكي إلى ليبيا في تونس، وأعلنا دعمهما لتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء الانتخابات الليبية في أقرب وقت ممكن.

وفي الوقت نفسه، يبدو أن فرنسا تعمل على موازنة النفوذ الإيطالي المتزايد في ليبيا وفي منطقة الساحل بشكل عام، ولا سيما في ضوء التحركات المتنامية التي تقوم بها روما داخل الأخيرة، والتي تهدف إلى تعزيز حضورها في المنطقة وفي ليبيا على حساب فرنسا، التي تواجه أيضاً تحدي استمرار التفاهمات التركية-الإيطالية في ليبيا.

توقيت لافت

تأتي هذه الزيارة في الوقت الذي تواجه فيه فرنسا خسارة كبيرة لنفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، بعد أن تصاعدت ظاهرة الانقلابات العسكرية في المنطقة والتي أدت إلى سقوط حلفائها واحداً تلو الآخر، وبشكل لم تنجح باريس في مواجهته في ظل اتساع نطاق التظاهرات المناوئة لها والمطالبة برحيل قواتها وإنهاء وجودها في المنطقة.

لذا، يبدو أن هذه الزيارة تستهدف بشكل رئيسي حماية المصالح الفرنسية في ليبيا، حيث أعربت فرنسا في أكثر من مناسبة عن ضرورة حل الأزمة الليبية وإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن. وتعتبر باريس أن بقاء الوضع الراهن في ليبيا، ووجود حكومتين متنافستين: واحدة في الغرب بقيادة رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبد الحميد الدبيبة، والأخرى في الشرق برئاسة أسامة حماد بتكليف من مجلس النواب؛ سيؤثر على جهود تسوية الأزمة الليبية ويهدد نفوذها المتراجع في ليبيا، وهو ما يدفعها إلى تجديد الدعوة إلى إيجاد حل سياسي يساهم في إجراء الانتخابات بالبلاد.

دلالات رئيسية

تطرح زيارة المبعوث الفرنسي إلى ليبيا في هذا التوقيت العديد من الدلالات، التي يتمثل أهمها في:

1- تعزيز العلاقات مع طرابلس: تأتي الزيارة بعد أن واجهت فرنسا اتهامات بأنها تقوم بتقديم الدعم للعملية العسكرية التي يقوم بها الحيش الليبي في جنوب البلاد، وهو ما نفته باريس، التي سعت إلى احتواء التوترات في العلاقات مع طرابلس والتي تصاعدت خلال السنوات الماضية، في ظل دعمها للجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر.

وقد كان واضحاً أن فرنسا تحاول استقطاب دعم أطراف ليبية لسياستها الحالية، على نحو بدا جلياً في حرص سولير على عقد اجتماع مع أعضاء المجلس البلدي وأعيان ووجهاء مدينة مصراتة، بحضور الدبيبة، حيث أكد دعم بلاده لسيادة ليبيا ووحدة أراضيها.

2- موازنة التحركات الروسية النشطة: كان لافتاً أن زيارة المبعوث الفرنسي جاءت بعد أيام من زيارة الوفد العسكري الروسي إلى ليبيا. ويبدو أن باريس تتعقب التحركات الروسية، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها العسكري والأمني في ليبيا ومحاصرة النفوذ الفرنسي في تشاد من جهة الشمال، كما تحاول استثمار التراجع الفرنسي وارتباك السياسة الفرنسية في الساحل لتحقيق مكاسب أوسع على الساحة الليبية.

وتبدي موسكو اهتماماً خاصاً بالمشاركة في إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في ليبيا في مرحلة ما بعد مقتل يفيجيني بريجوجين قائد مجموعة “فاجنر”، حيث تحرص على تعزيز حضورها العسكري بالتنسيق مع قيادة الجيش الليبي، ويبدو أنه سيكون لها دور في الاستعدادات التي تجريها تشاد من أجل شن عملية عسكرية ضد المعارضة التي تحظى بدعم خاص من جانب “فاجنر”، وتتخذ من بعض المناطق في جنوب وشرق ليبيا نقطة انطلاق لمهاجمة قوات الجيش التشادي.

3- تصاعد التنافس مع إيطاليا: تبدي فرنسا قلقاً واضحاً إزاء التحركات التي تقوم بها إيطاليا على الساحة الليبية، حيث ترى أن اتساع نطاق النفوذ الإيطالي في ليبيا سوف يكون خصماً من نفوذها. وقد نجحت روما بالفعل في تطوير علاقاتها مع حكومة الدبيبة، على نحو بدا جلياً في توقيع صفقة الغاز بين الطرفين، في 28 يناير الماضي، والتي تصل قيمتها إلى 8 مليار دولار.

ومن هنا، فإن فرنسا تسعى بدورها إلى موازنة التحركات الإيطالية داخل ليبيا، عبر تحسين علاقاتها مع الأطراف الرئيسية. ويبدو أن الصراع بين الطرفين سوف يتصاعد خلال المرحلة القادمة، على نحو بدت أولى مؤشراته جلية في التنافس على منصب سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن حكومة الدبيبة رفضت المرشح الإيطالي نيكولا أورلاندو، وتميل لصالح المرشح الفرنسي باتريك سيمونيه.

4- استمرار التنسيق مع واشنطن: يبدو أن فرنسا تتجه نحو توسيع نطاق التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالتعامل مع التطورات السياسية التي طرأت على الساحة الليبية، لا سيما في ظل استمرار التحركات التي تقوم بها روسيا على المستويين السياسي والعسكري. ومن هنا، كان لافتاً أن المبعوثين الأمريكي ريتشارد نورلاند والفرنسي بول سولير عقدا اجتماعاً في تونس، في 31 أغسطس الفائت، أكدا خلاله دعم بلادهما لدعوة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي إلى إنشاء حكومة تكنوقراط موحدة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.

5- مزاحمة الدور التركي في الغرب: يمثل الملف الليبي أحد الملفات الخلافية العالقة بين تركيا وفرنسا، في ظل استياء الأخيرة من السياسة التي تتبعها الأولى داخل ليبيا، والدعوات المتكررة التي توجهها باريس من أجل إخراج المليشيات المسلحة والمرتزقة من ليبيا، باعتبار أن هذه الأطراف تعرقل إنهاء المرحلة الانتقالية والوصول إلى الاستحقاقات السياسية المؤجلة، على غرار الانتخابات الرئاسية. ومن هنا، فإن زيارة المبعوث الفرنسي إلى ليبيا تمثل، في قسم منها، محاولة من جانب باريس لمزاحمة الدور الذي تقوم به أنقرة داخل ليبيا، وتأكيد جدية الأولى في المضى قدماً نحو دعم جهود إنهاء المرحلة الانتقالية المتعثرة.

مهمة صعبة

في النهاية، لا يمكن الفصل بين زيارة المبعوث الفرنسي الخاص إلى ليبيا عن التطورات التي شهدتها منطقة الساحل في الفترة الأخيرة. إذ يبدو أن فرنسا تبذل جهوداً حثيثة من أجل الحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في تلك المنطقة، وربما تحاول تعويض الخسائر الاستراتيجية التي تعرضت لها عبر تكثيف تحركاتها داخل ليبيا وتعزيز دورها في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية التي يجري العمل عليها حالياً. لكن هذه المهمة لن تكون سهلة، في ظل تشابك المصالح مع العديد من القوى الإقليمية والدولية المناوئة لها، والتي تسعى بدورها إلى تعزيز حضورها في ليبيا ومناطق النفوذ الفرنسي التقليدي في الساحل.