تمنح القمة العربية الصينية دفعة قوية للعلاقات بين الصين والعالم العربى. العلاقات بين الجانبين مفيدة لكليهما وواجبة فى كل الظروف، إلا أن طبيعة الوضع الدولى تفرض إدخال طرف ثالث، هو الولايات المتحدة، فى الصورة، والنظر إلى العلاقات العربية الصينية من منظور ثلاثى، خاصة والقمة الصينية العربية تنعقد بعد خمسة أشهر من قمة أمريكية عربية انعقدت على أرض المملكة السعودية أيضا. بينما تأتى القمة العربية الصينية ضمن مسار متصاعد بثبات للعلاقات بين الطرفين، انعقدت القمة العربية الأمريكية فى إطار محاولة أمريكية لوقف مسيرة التراجع وعدم الثقة فى العلاقات العربية الأمريكية. فبعد تصريحات مسيئة وتجاهل استمر لعدة شهور، بادر الرئيس الأمريكى بايدن بزيارة المملكة العربية السعودية فى يوليو كجزء من رد الفعل الأمريكى على الحرب الروسية فى أوكرانيا، وفى محاولة من واشنطن لإقناع المملكة بتوفير كميات كافية من النفط فى الأسواق لتعويض النقص فى صادرات الطاقة الروسية. زيارة الرئيس الصينى للمنطقة هى حلقة جديدة من عملية ممتدة لتعزيز الوجود الصينى فى الشرق الأوسط، بينما كانت زيارة الرئيس الأمريكى جزءا من محاولة لعكس اتجاه الولايات المتحدة للتخفف من التزاماتها الأمنية إزاء دول المنطقة، ورسالة أمريكية مفادها أن الولايات المتحدة باقية فى المنطقة ولن تنسحب منها.
الولايات المتحدة تتعاون مع دول المنطقة، لكنها لا تكف عن التعليق على شئونها الداخلية والتدخل فيها، ومحاولة فرض قيمها الخاصة عليها، وهو ما لم يعد مقبولا من جانب دول المنطقة. تمتنع الصين، فى المقابل، عن التعليق أو التدخل فى الشئون الداخلية لشركائها، فى احترام كامل لحقوق السيادة والهويات والتعددية الثقافية، وهو ما يجنب العلاقات مع الصين أزمات غير ضرورية. النفط هو مصدر الثروة الأهم فى منطقتنا، وتوفر عوائده دخلا، ليس فقط للدول المنتجة، ولكن أيضا لكل دولة تستفيد من تحويلات العاملين والاستثمارات والمساعدات الخليجية. الصين هى المستورد الأكبر للنفط فى العالم، وهى المستورد الأكبر للنفط القادم من المنطقة العربية، وهو وضع سيتواصل لسنوات طويلة قادمة. الولايات المتحدة، بالمقابل، هى أكبر منتج، وثالث أكبر مصدر للنفط فى العالم, فهى فى مجال الطاقة أقرب للمنافس منها للشريك لدول الشرق الأوسط البترولية. تربط الصين علاقات تعاون مع أغلب دول المنطقة، بما فى ذلك الدول التى تتسم العلاقات بينها بدرجة عالية من التوتر. للصين علاقات تعاون قوية مع إيران وإسرائيل والسعودية، فالصين حريصة على تجنب التورط فى صراعات المنطقة. وقعت الصين اتفاقا طويل الأمد للشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران، وتتجه لتوقيع اتفاق مشابه مع المملكة السعودية خلال زيارة الزعيم الصينى الحالية. الولايات المتحدة، على العكس من ذلك، هى طرف رئيسى فى صراعات المنطقة، لها حلفاء كما أن لها أعداء. ربما تستطيع الصين توظيف علاقاتها بالأطراف المختلفة لتخفيف التوتر ومد الجسور بين دول المنطقة، بينما تلعب الولايات المتحدة دورا رئيسيا فى توفير الأمن عندما تسوء العلاقات ويزيد التوتر. علاقات الصين بدول المنطقة تكاد تقتصر على مجالات التجارة والاستثمار، فالصين تتعامل بحذر مع المطالبات بتوسيع علاقات التعاون مع دول المنطقة لتشمل مجالات ذات صلة بالدفاع والأمن. على العكس من ذلك فإن علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة هى علاقة متعددة الأبعاد، يبرز فيها البعدان الدفاعى والأمنى، بما فى ذلك صادرات السلاح والتدريبات المشتركة وتبادل المعلومات. لم تعد دول المنطقة تثق فى الالتزامات الدفاعية والأمنية الأمريكية بنفس القدر الذى اعتادت عليه لعقود. تعزيز العلاقات مع الصين هو جزء من محاولة التكيف العربية مع عدم اليقين الناتج عن التغير فى السياسة الأمريكية. فى الماضى كانت الولايات المتحدة شريكا وحيدا كافيا لسد الاحتياجات الأمنية لدول الخليج العربية. التغير فى السياسة الأمريكية فرض على العرب البحث عن شراكات إضافية تخفف أثر تراجع الضمانات الأمريكية. يسد التعاون مع الصين وروسيا ودول أوروبية بعض الاحتياجات الدفاعية والتسليحية للدول العربية. هذه إضافة شديدة الأهمية، لكنها تبقى مختلفة نوعيا وأقل من الضمانة الكافية للتصدى لأسوأ الاحتمالات وأخطرها، وهى احتمالات يزخر بها الشرق الأوسط، ولنا فى غزو الكويت عام 1990 مثال على مخاطر كانت الولايات المتحدة هى الدولة الوحيدة القادرة على التصدى لها. الولايات المتحدة منقسمة سياسيا على نفسها، وصل الاستقطاب الأيديولوجى فيها إلى مستوى يهدد قدرة نظامها السياسى على ممارسة سياسة خارجية فعالة ومستدامة. لم يعد من الممكن الركون إلى الثقة فى التزامات قد يكون للرئيس الأمريكى القادم رأى آخر فيها، وعلى شركاء الولايات المتحدة التحوط لهذا الاحتمال. الشراكة مع الصين هى أحد بدائل التحوط لتقلبات السياسة الأمريكية، مع الأخذ فى الاعتبار ما تمر به الصين هى أيضا من تحولات. لقد استكملت الصين مرحلة التركيز على النمو الاقتصادى البرىء، وراحت تبنى جيشا حديثا قويا وتمارس سياسة خارجية نشطة، تسعى لتمكين الصين من الفوز بمكانة الدولة العظمى الجديرة بها. النظام السياسى فى الصين يمر بتحولات عميقة ستترك آثارها على السياسة الخارجية، بعد أن دخلت البلاد تحت القيادة الطويلة الأمد لزعيم يتمتع بصلاحيات غير محدودة، وهو ما يختلف عن النظام السياسى الذى قاد الصين بحذر نحو النجاحات التى تحققت طوال الأربعين عاما السابقة. لا بديل للعرب من الإبحار فى مياه التنافس الأمريكى الصينى الضحلة والعميقة كلاعب مستقل، قادر على حماية نفسه من التحول إلى بيدق على رقعة شطرنج تتنافس عليها القوى العظمى القديمة والصاعدة.
نقلا عن الأهرام