في الأحداث التاريخية يوجد دومًا نوعان من الألغاز، أحدهما زائف، ويقوم على اختبار لشكل من نظرية «المؤامرة» يعتبر غياب المعلومات تصريحًا بتأليف واقع يقوم على أساس من العلاقات الارتباطية، التي تجعل صياح الديكة في الصباح سببًا لطلوع الفجر مادام كلاهما يحدث في نفس الزمن. أحيانًا يقوم الزيف على أساس من نظرية «الجريمة»، التي تقول إن «المستفيد» منها على الأرجح هو الذي قام بها. هي إدانة مسبقة لا يسبقها دليل ولا برهان، وإنما «الظن» هو أساسها ومحتواها يدعمها نوع من اليقين المزعوم. النظرية ترتبط بالتخلف العلمى والفكرى، وهى تكثر في الدول النامية، وإن كان لها بعض ظهور في مجتمعات متقدمة استنادًا إلى روايات دينية متواترة. عند تطبيق هذا الزيف، سوف تجد ما هو شائع الآن في أدوات التواصل الاجتماعى حول حرب غزة الخامسة، حيث ترد القصة على الوجه التالى: أن إسرائيل اتفقت مع حماس على أن تقوم بهجمتها يوم ٧ أكتوبر الماضى، وتمده بالخطف والقتل والتمثيل لعسكريين ومدنيين إسرائيليين حتى بلغ العدد ما لم يبلغه من قبل في أول أيام القتال؛ وهكذا تعطى إسرائيل تصريحًا بالهجوم الجوى الساحق على قطاع غزة، ومن بعده الهجمة البرية حتى تدمرها وتدفع سكانها إلى الجنوب وإما يتم دفعهم إلى مصر أو إلى خارج الإقليم، فالمهم هو حدوث نكبة جديدة تفرغ القطاع من سكانه الفلسطينيين. القصة هنا لا تهتم كثيرًا بمدى عقلانية الإسرائيليين للتضحية بعدد كبير من المواطنين، أو أن الفلسطينيين لا يبالون بنكبة جديدة وأن أيًّا من ذلك لا يوجد برهان واحد عليه لأن الفلسطينيين والإسرائيليين لا يزالون في حالة قتالية حتى وقت كتابة هذا المقال، ولا يزال الغالبية الكبرى من الفلسطينيين داخل قطاع غزة، وأنه لا توجد لحظة واحدة تستعد فيها إسرائيل لوقف القتال.
ولكن هناك نوع آخر من الألغاز، التي تنجم عن غياب المعلومات، والتى عادة إذا ما ظهرت على الإطلاق، فإنها تبدأ في التسلسل للذاكرة الجمعية للأمم حول ما حدث ولماذا جرى ما جرى؟. وفى حالة حرب غزة الخامسة، تبدو منطقية مثل حروب غزة الأربع التي سبقتها نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية وتوسعه بالمستوطنات وتعسفه مع السكان الفلسطينيين سواء في داخلها، أو في الأراضى التي تحتلها. ولكن التاريخ لا يبحث دائمًا فقط عن الأسباب المنشئة، وإنما يفتش أيضًا عن دور القوى المحركة التي تجعل واقعة تقع في لحظة تاريخية ما، فالشيخوخة التي أتت على الإمبراطوريات الكبرى كانت سببًا معلومًا، ولكنه لم يُغْنِ عن التعرف على ذلك «الإمبراطور»، الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير وكانت سببًا في زوال الإمبراطورية، اللغز الذي يبحث عن ذلك السبب المباشر أو غير المباشر الذي جعل الموضوع يتبدل حاله من الوجود إلى الانتهاء. في حرب غزة الخامسة، هناك لغز إيرانى يوجد منه الكثير من الإفصاح من حيث التمويل والتدريب والتوجيه العام في ظل شمس «المقاومة» أو «الممانعة» والاستدلال من قلق قدوم «التطبيع» الجديد من المملكة العربية السعودية وإسرائيل يقلب الحال «الجيو سياسى» الإيرانى باتفاق «أطلنطى» الطابع يأخذ من أمن إيران ولا يُضاف إليه؛ ويجعل حماس أشد ضعفًا في العمل والتأثير إزاء ما يجعل «موالاة» السلطة جزءًا من تطور استراتيجى كبير. لا يوجد تخمين هنا كبير عما إذا كانت أدوات إيران الميليشياوية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين قد آن أوان استخدامها أم لا. شهادة الشيخ حسن نصرالله أن إيران لا تتدخل في تفاصيل العمليات الخاصة بحلفائها لا تدل على عدم التدخل، وإنما تدل على الكثير من الحصافة السياسية والاستراتيجية وليس على عدم التواجد مع مَن يحصلون على المال والسلاح.
«اللغز الصينى» يبدو هو الآخر مهمًّا في المعادلة الخاصة بالحرب، فشَنّ حماس هجومها في ٧ أكتوبر، وسواء كان بمباركة إيرانية مباشرة أو غير مباشرة، فإنه جاء في وقت انشغل فيه العالم بالحرب الأوكرانية مما جعل هناك فراغًا تدافعت الولايات المتحدة بملئه فور نشوب حرب غزة. ولكن الظن كان كبيرًا وغالبًا في المصادر الفكرية العالمية أن الصين قد صارت قوة عظمى جديدة في العالم. ربما كانت روسيا تشحب قواها بفعل الحرب التي لم تكسبها، وبوتين الذي يبدو حائرًا بين استراتيجية للنصر أو أخرى للتراجع. ولكن الصين شىء آخر، فهى اقتصاديًّا والقوة الشرائية للدولار تفوق الولايات المتحدة، وهى تكنولوجيا وأرضية تتوسع، وبينما الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط لكى تركز على أوروبا و«الإندو باسيفيك»، فإن الصين تعقد قمة عربية صينية في السعودية، بينما تعقد رابطة بين السعودية وإيران، وينتشر نفوذها على «الحزام والطريق». السؤال المُلِحّ عن اللغز الصينى هو: أين الصين في أزمة الشرق الأوسط الراهنة؟، استنكار الحرب في هجوم حماس وإسرائيل كان شاحبًا، والمفوض الصينى للشرق الأوسط لم يكن عاليًا، ورغم كل شىء، فإن زيارة الرئيس الصينى إلى واشنطن كانت على رأس قائمة الاهتمام، وفى حدود العلم، فإن «الشرق الأوسط» لم يكن ملحوظًا في قمة البلدين.
«اللغز الأمريكى» متعدد الأوجه، فهو في بداية الأزمة وقف وقفة كبرى حازمة مساندة لإسرائيل، وجرَّ التأييد الأمريكى وراءه تأييدًا أوروبيًّا كاسحًا، بينما كانت واشنطن تلفت الأنظار العربية إلى أنها تريد أن تجعل من الأزمة فرصة للتوصل إلى السلام على أساس من حل الدولتين. الاستثمار في إسرائيل بالتأييد لم يكن له عائد، فلا هو أوقف الهجوم الإسرائيلى على المستشفيات الفلسطينية رغم التحذيرات الأمريكية، وبدَت المسافة واسعة بين أمريكا وإسرائيل عندما بدأت الأخيرة في التعبير عن أطماعها المباشرة: أولًا في تنفيذ «النكبة» في اتجاه مصر، وثانيًا بالتدمير المكثف لغزة، وثالثًا بالتصريح أن إسرائيل سوف تحتل القطاع إلى أجل غير مسمى، وربما تعيد مستوطناتها فيها، ورابعًا الدخول إلى الضفة الغربية بالطريقة التي تتيح أيضًا نكبة في اتجاه الأردن، وخامسًا أن إسرائيل باتت لا تمانع في إشعال حرب مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. باختصار، كانت إسرائيل تعمل ضد كل ما تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه. اللهجة الإسرائيلية تجاه أمريكا كانت باردة، ومن بعض أركانها ساخرة، وفى وقت من الأوقات تساءل بيل كلينتون وقت وجوده في البيت الأبيض عقب لقاء مع قيادة إسرائيلية عمّن يمثل القوة العظمى في العالم؟.
الآن، هناك عدد من الألغاز المعلقة، أسهلها معتاد، وهو متى تنتهى الحرب؟، وعرفناه قبل فترة قصيرة عندما نشبت الحرب الروسية الأوكرانية؛ والآن لم يعد أحد يهتم بهذا اللغز؛ بل إن أحدًا لم يعد يهتم بما إذا كانت الحرب سوف تتسع أو تظل على حالها، فلا خفتت الرشقات الصاروخية، ولا زادت دقتها، ولا يزال حزب الله يرفع من ضرباته من الاحتكاك إلى التحرش؛ اللغز الأكبر بالنسبة لمصر يدور حول ثمن حرب لم ندخلها!.
نقلا عن المصري اليوم