شهدت العديد من الدول الأوروبية تصاعداً في نمط العمليات الإرهابية الفردية أو ما يطلق عليها عمليات “الذئاب المنفردة”. ففي بريطانيا، استهدف عنصر متطرف- بريطاني من أصول صومالية- النائب المحافظ ديفيد أميس في 15 أكتوبر الجاري، حيث أعلنت الشرطة في بيان أن “طعن أميس حتى الموت حادثة إرهابية”، مشيرة إلى أن “العناصر الأولى للتحقيق كشفت عن دافع محتمل مرتبط بالتطرف..”. وقد جاءت هذه العملية الإرهابية بعد يومين من عملية إرهابية أخرى وقعت في مدينة كونغسبيرج النرويجية في 13 من الشهر نفسه، أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة آخرين، حيث شن عنصر متطرف هجوماً باستخدام القوس والسهم، وأعلنت الشرطة النرويجية أنه “دانماركي اتسم بالتطرف في الآونة الأخيرة وكان في بؤرة اهتمام السلطات لفترة طويلة بسبب ميوله المتطرفة”. هذا التصاعد الملحوظ في العمليات الإرهابية داخل بعض الدول الأوروبية يطرح تساؤلات عديدة حول أسباب استناد التنظيمات الإرهابية من جديد إلى نمط العمليات الفردية، وسمات منفذي هذه العمليات أو ما يطلق عليهم “الذئاب المنفردة”.
هجمات متعددة
اللافت في هذا السياق، هو تزايد وتيرة العمليات الإرهابية الفردية التي تعتمد على ما يطلق عليه “الذئاب المنفردة” داخل بعض الدول الأوروبية منذ نهاية عام 2020، حيث شهدت هذه الدول ثلاث عمليات إرهابية بدأت بهجوم باريس الذي وقع في 25 سبتمبر 2020، ونفذه لاجئ من أصل باكستاني وأسفر عن إصابة أربعة أشخاص بجروح متفاوتة، ثم العملية الإرهابية التي وقعت في نيس جنوب فرنسا في 29 أكتوبر من العام نفسه، وأدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص. ووقعت العملية الإرهابية الثالثة في العاصمة النمساوية فيينا في 2 نوفمبر من العام الفائت، وأسفرت عن مقتل شخصين، وإصابة 14 آخرين، بالتوازي مع تصاعد الدعوات المختلفة من قبل قادة بعض التنظيمات الإرهابية لمزيد من الاستهداف سواء للمواطنين داخل الدول الأوروبية أو للمصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
دوافع مختلفة
يمكن تفسير تصاعد ظاهرة العمليات الفردية داخل بعض الدول الأوروبية في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توجيه رسائل مباشرة من جانب التنظيم: يأتي حرص عناصر إرهابية فردية على القيام بتنفيذ عمليات إرهابية في بعض الدول الأوروبية استجابة لدعوة المتحدث الرسمي لتنظيم “داعش” المهاجر أبو حمزة القرشي باستهداف الدول الأوروبية عبر ما أسماه بـ”جمهور التنظيم”. فقد بث القرشي في 28 مايو 2020 رسالة صوتية تحدث فيها عن الاستراتيجية الجديدة التي يتبعها التنظيم للتعاطي مع التطورات التي طرأت في الفترة الماضية، والتي أطلق عليها “فترات عدم التمكين”، ويسعى من خلالها إلى توسيع نطاق العمليات الإرهابية، لاسيما داخل الدول الأوروبية، مع التركيز على “العمليات البدائية” التي تعتمد على الدهس أو القتل باستخدام أسلحة خفيفة، مثل السكين، مع استهداف أكبر عدد ممكن من المدنيين الأوروبيين وعناصر أجهزة الأمن والمصالح الاقتصادية.
2- التحايل على الإجراءات الأمنية المعقدة: تعتمد الاستراتيجية الجديدة التي يتبعها التنظيم على ما يسمى بـ”العمليات الإرهابية المفاجئة” التي تتسم بطابع انتقامي وبمحدودية النطاق واتساع التأثير، والبدائية في التكتيكات والأسلحة المستخدمة، والتركيز على “الذئاب المنفردة”، بما يعني أنها تختلف، إلى حد ما، عن العمليات التقليدية التي كان يقوم بها التنظيم في فترة ما بعد منتصف عام 2014، عندما كان يعتمد على تنفيذ هجمات أوسع نطاقاً تهدف إلى تحقيق “السيطرة المكانية” وتطبيق التوجهات التي يتبناها التنظيم على الأرض. وهنا، فإن لجوء التنظيم إلى تبني هذا التكتيك يعكس رغبته في إثبات وجوده، مع التحايل على القيود الأمنية التي تفرضها السلطات، عبر الاعتماد على ما يوفره هذا التكتيك من آليات تضع عقبات أمام تعقب هذا النمط من العمليات الإرهابية أو التنبؤ بحدوثها.
3- الرد على مقتل قيادات “داعش”: مارست الدول الأوروبية دوراً بارزاً في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم “داعش”، حيث شاركت مع الولايات المتحدة الأمريكية والعراق وبعض القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، في تنفيذ العديد من العمليات النوعية ضد التنظيم، على نحو أسفر عن قتل العديد من قيادات الصف الأول والثاني، خلال المرحلة الجارية، كان آخرهم زعيم تنظيم “داعش- فرع غرب أفريقيا” أبو مصعب البرناوي، الذي أعلنت السلطات النيجيرية عن مقتله في 14 أكتوبر الجاري، وقبله أبو عمر الخرساني، أحد أهم قيادات التنظيم في “فرع خراسان” في أفغانستان، الذي قتل في 26 سبتمبر الفائت، بالتوازي مع القبض على العديد من القيادات الأخرى. ومن دون شك، فإن فقدان هذه القيادات كان متغيراً أساسياً دفع تنظيم “داعش” إلى التركيز على استهداف الدول الأوروبية، عبر العمليات الإرهابية الفردية التي يصعب التنبؤ بها أو تتبعها، وتتم بصورة خاطفة، وتحظى في الوقت نفسه بتغطية إعلامية تكشف عن استمرارية التنظيم، بما يقلص من التأثيرات السلبية للضربات الأمنية التي يتعرض لها، خاصة فيما يتعلق بزعزعة الثقة لدى أتباعه.
4- محاولة استعادة النفوذ وإثبات القوة: يرى قادة “داعش” أن إطلاق الدعوات لتنفيذ عمليات إرهابية فردية وغير منظمة، يمكن أن يُظهِر “داعش” كتنظيم مسيطر وفاعل على مستوى العالم، في الوقت الذي تراجعت قدراته بشكل كبير منذ سقوط الباغوز في مارس 2019 وانهيار مشروعه ومقتل العديد من قياداته ومنهم أبو بكر البغدادي، وهو ما خصم بشكل كبير من إمكانياته القتالية والعملياتية.
5- استقطاب عناصر من اللاجئين والجاليات: يستهدف التنظيم أيضاً استقطاب بعض العناصر من اللاجئين والجاليات الموجودة داخل الدول الأوروبية، للانضمام إليه، من خلال الترويج إلى أن لديه القدرة على تجاوز الإجراءات الأمنية المشددة التي تفرضها سلطات تلك الدول وتنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن ذلك لا يمكن فصله عن محاولة “داعش” استغلال تدفق اللاجئين الأفغان إلى الدول الأوروبية بعد سيطرة حركة “طالبان” على الحكم في أفغانستان في منتصف أغسطس الماضي. وربما يكون ذلك هو الذي دفع رئيس وكالة مراقبة الحدود الأوروبية فابريس ليغيري، في 2 سبتمبر الفائت، إلى التأكيد على “ضرورة أن تحمي الدول الأوروبية نفسها من استقبال أشخاص على صلة بتنظيمات إرهابية”.
نمط مستمر
في النهاية، تشير العمليات الإرهابية الأخيرة التي وقعت داخل بعض الدول الأوروبية إلى تصاعد ما يمكن تسميته بـ”الإرهاب العشوائي” في العمق الأوروبي، عبر توجيه تنظيم “داعش” العديد من الدعوات لتنفيذ عمليات إرهابية، مستغلاً بعض التطورات التي طرأت على الساحة الأوروبية، لاسيما ما يتعلق بتزايد تأثير التيارات اليمينية الشعبوية، فضلاً عن استمرار الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ولم تصل بعد إلى تسويات سياسية.