لا يبدو أن الأزمات التي يواجهها قطاع النفط الليبي سوف تتراجع خلال المرحلة القادمة، في ظل استمرار الصراع السياسي بين حكومة الوحدة الوطنية والحكومة المكلفة من البرلمان، فضلاً عن تزايد القيود المفروضة على تمويل عمليات صيانة وتطوير الحقول النفطية، إلى جانب تجدد المواجهات بين المليشيات المسلحة في غرب ليبيا، وهو ما يوحي بأن احتواء تأثير تلك الأزمات يرتبط في المقام الأول بتسوية الأزمة السياسية، وإنهاء دور المليشيات، ومعالجة المشكلات الفنية على غرار ظاهرة تسرب النفط.
مخاطر مستمرة
أدى تصاعد حدة الاحتجاجات التي تشهدها ليبيا، وإغلاق المحتجين ميناءَىْ رأس لانوف والسدرة لتصدير النفط في شرق ليبيا في 9 يونيو الجاري، فضلاً عن الإغلاق المتكرر لحقلى الشرارة والفيل الرئيسيين؛ إلى تراجع فرص انتعاش قطاع النفط الليبي، الذي يُشكّل 98% من إيرادات الدولة. ومن المرجّح أن يساهم ذلك في ترسيخ الانقسامات السياسية التي وصلت إلى الذروة على الساحة الليبية بسبب الصراع على السلطة بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا الذي وافق البرلمان، في 15 يونيو الجاري، على الميزانية التي قدمتها حكومته لتكون الميزانية الأولى المعتمدة منذ عام 2014.
وبحسب ترجيحات عديدة، فإن تصاعد حدة هذه الاحتجاجات والاضطرابات كان انعكاساً للصراع المحتدم بين الدبيبة وباشاغا، بعد أن وافق البرلمان الليبي على منح الثاني الثقة لتشكيل حكومة جديدة. وسبق أن شهدت منشآت النفط الليبية اضطرابات متكررة في السنوات التي خلت بسبب حالة التشظي السياسي، وكذلك الاحتجاجات المتقطعة لحراس المنشآت النفطية وعمال الشركات النفطية للضغط على مؤسسة النفط من أجل تحسين مستوى أجورهم، وهو ما تسبب -بين حين وآخر- في انقطاع إمدادات النفط الليبية.
مؤشرات عديدة
يتعرّض قطاع النفط الليبي لمخاطر متزايدة، على نحو يبدو جلياً في مؤشرات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- اتساع نطاق الاضطرابات السياسية: يشهد قطاع النفط الليبي تطورات سلبية منذ مارس الماضي، زادت وتيرتها عندما منح البرلمان الثقة للحكومة الجديدة برئاسة فتحي باشاغا؛ لتكون بديلة لحكومة عبد الحميد الدبيبة، على نحو أدى إلى تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، والعودة إلى عسكرة الأزمة الليبية مجدداً، وظهر ذلك في إغلاق بعض موانئ تصدير النفط، وتعطيل إنتاج عدد من الحقول، وهو ما ساهم في تراجع إنتاج النفط الليبي بالفعل بنحو النصف إلى 600 ألف برميل يومياً، خاصة بعد أن تعرض حقلا الشرارة والفيل الرئيسيان للإغلاق أكثر من مرة.
2- تجدد المواجهات العسكرية بين المليشيات: فرض تجدد المواجهات العسكرية تداعيات سلبية على أوضاع القطاع النفطي، خاصة في ظل استمرار الصراع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا، الذي قال في تصريحات له في 10 يونيو الجاري إن حكومته تتنافس على السلطة مع “عصبة خارجة عن القانون تنتهج الابتزاز السياسي”. ويشار إلى أن اشتباكات عنيفة اندلعت في طرابلس، في 10 يونيو الجاري، بين جماعات مسلحة موالية للدبيبة وأخرى داعمة لباشاغا استُخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
3- تزايد تأثير قيود التمويل: يعاني قطاع النفط الليبي من استمرار القيود المفروضة على تمويل مشاريع تطوير الحقول النفطية، أو تلبية مطالب الصيانة والإصلاحات في الحقول المنتجة، وهى مشكلات تكررت في الفترة الأخيرة، الأمر الذي دفع المؤسسة الوطنية للنفط، في 22 مايو الفائت، إلى إصدار قرار بوقف جميع عمليات الحفر التطويري والاستكشافي للآبار الجديدة في الحقول والموانئ الليبية كافة؛ بسبب تأخير تسييل الميزانيات المعتمدة لعام 2022، فضلاً عن تراكم الديون على مؤسسات النفط. ومن دون شك، فإن هذه القرارات سوف تؤدي إلى تراجع الإنتاج، خاصة مع استمرار مشكلات توقف عمليات الصيانة، وهو ما يتعارض مع الخطط التي وُضعت لتطوير القطاع النفطي تحديداً، وزيادة الإنتاج إلى ما يقرب من 1.5 مليون برميل خلال العام الجاري. واللافت في هذا السياق هو أن هذه المشكلة تتوازى مع تصاعد ظاهرة “التسرب النفطي”، حيث اكتشفت دورية تابعة للجيش الليبي، في 31 مايو الفائت، تسرباً في خط أنابيب النفط الواصل بين حقل السرير وميناء طبرق النفطي شرقى البلاد، على نحو يمثل استنزافاً إضافياً للقطاع.
4- استمرار الصراع بين الجهات النفطية: انعكس التوتر القائم بين المؤسسة الوطنية للنفط ووزارة النفط في حكومة الدبيبة على القطاع النفطي، ولا سيّما بعد أن اتخذ رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله قراراً بتعليق مدفوعات عائدات النفط لحكومة الوحدة الوطنية، للتجاوب مع الدعوة التي وجّهها رئيس البرلمان عقيلة صالح في هذا الشأن، في 15 مارس الماضي، حيث طالب الأخير بعدم إحالتها إلى حساب الإيرادات العامة بصفة مؤقتة، مستنداً إلى أن حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية.
انعكاسات محتملة
تسبب إغلاق بعض موانئ تصدير النفط، وتعليق إنتاج بعض الحقول خلال الأيام الماضية، في إرباك صناعة النفط الليبي، على نحو بدا جلياً في إعادة العديد من الشركات الأجنبية العاملة النظر في خططها الاستثمارية في القطاع، وخاصة شركة “إيني” الإيطالية التي أعلنت مؤخراً عن قلقها بشأن اضطراب الأوضاع السياسية في ليبيا.
بالتوازي مع ذلك، فإن بعض شركات التنقيب الدولية، وفي الصدارة منها شركة “بريتش بتروليوم” البريطانية، كانت قد أعلنت، في 7 مارس الماضي، عن نيتها استئناف نشاطها في امتيازاتها الاستكشافية البرية بحوض “غدامس” و”البحرية” بحوض سرت. غير أن تطورات الأوضاع الراهنة، وتصاعد حدة الاستقطاب السياسي، وانعكاساتها على أوضاع النفط في البلاد؛ ربما يدفع الشركة البريطانية للتمهل بشأن إعادة عملها في ليبيا.
ومن دون شك، فإن ما يمكن أن يزيد من حدة هذه الأزمات هو الاحتجاجات النوعية والمتقطعة التي وقعت في الأشهر الأخيرة داخل الحقول النفطية، على غرار ما حدث في 17 أبريل الماضي، عندما اقتحم محتجون مجهولو الهوية حقل “الفيل” في أوباري، ومنعوا الموظفين من العمل، وأعلنوا وقف إنتاج وتصدير النفط من الحقل ومن ميناء الزويتينة، احتجاجاً على عدم تمكين الحكومة المكلفة من تسلم السلطة في العاصمة طرابلس، وطالب المحتجون بضمان التوزيع العادل للموارد النفطية بين مدن ومناطق وأقاليم ليبيا، وإقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، وتصحيح الوضع القانوني لمجلس إدارتها بعيداً عن التجاذبات السياسية.
استحقاقات مهمة
ختاماً، يمكن القول إن ما تتعرض له صناعة النفط الليبية من تحديات في الوقت الحالي، والتي زادت وتيرتها مع تصاعد وتيرة الصراع السياسي بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها والحكومة المكلفة من البرلمان؛ قد يعرقل عمليات الإنتاج وتصدير النفط الخام في الفترة القادمة، وهو الأمر الذي سوف ينعكس على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد التي تبدو مقبلة على استحقاقات سياسية مهمة.