تكشف الزيارة التي قام بها عاموس هوشستين كبير مستشاري وزارة الخارجية الأمريكية لأمن الطاقة إلى لبنان في ٣٠ و٣١ أغسطس الفائت، والتي التقى خلالها عدداً من القيادات والمسئولين اللبنانيين من أبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وقائد الجيش العماد جوزيف عون، وكذلك وزير الطاقة وليد فياض؛ عن اهتمام أمريكي بالأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجهها لبنان في أعقاب فشل مجلس النواب للمرة الثانية عشرة في اختيار رئيس لبناني جديد بعد انتهاء رئاسة الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر الماضي، واتساع نطاق الحرب الكلامية بين حزب الله وإسرائيل، والذي يُنذر بتصعيد عسكري محتمل إذا لم يتم التعامل مع مسبباته.
وتشير التحركات الأمريكية الأخيرة حيال الأوضاع اللبنانية المتأزمة إلى تحول في تعامل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الملف اللبناني، وتراجع أمريكي عن إسناده إلى حليفتها فرنسا، بعد إخفاقاتها في التعامل مع الأزمات المتعددة التي تواجهها لبنان، والتي من شأن استمرارها تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي بما يتعارض مع المصالح والأهداف الأمريكية في الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
أهداف رئيسية
تهدف التحركات الأمريكية خلال الفترة الأخيرة إلى حلحلة العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجهها لبنان، ومن أبرزها ما يلي:
١- ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل: بعد نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية، في ٢٧ أكتوبر الماضي، والذي أنهى النزاع الإسرائيلي–اللبناني حول التنقيب عن الغاز والنفط، كان على أجندة هوشستين تقييم إمكانية بحث إطار لترسيم الحدود البرية بين الطرفين. فقد زار جنوب لبنان ليرى عن قرب الخط الأزرق الفاصل بين لبنان وإسرائيل الذي رسمته الأمم المتحدة عند الحد الذي انسحبت إليه القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠، والمناطق المحيطة؛ لفهم ومعرفة المزيد عما هو مطلوب لترسيم الحدود بين الجانبين، مشيراً إلى أنّ هناك فرصة لترسيمها.
ويمكن القول إن ثمة ترحيباً لبنانياً بالجهود الأمريكية للتوسط بين بيروت وتل أبيب لترسيم الحدود البرية بينهما، حيث صرح وزير الخارجية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب، بأن ترسيم الحدود البرية يمكن أن يضع حداً للتوترات بين لبنان وإسرائيل. وقد أكد جاهزية لبنان لإطلاق مسار حل النزاع الحدودي، بما يحافظ على الحقوق اللبنانية.
لكنّ الجهود الأمريكية للتوسط لترسيم الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان ستتوقف على ما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية مستعدة، فقد صرح هوشستين بأنه سيستمع إلى الجانب الإسرائيلي ويُقيّم ما إذا كان الوقت مناسباً لانخراط الولايات المتحدة الأمريكية في التوسط بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود بينهما أم لا. ومن الجدير بالذكر أن قوة حفظ السلام التابعة لمنظمة الأمم المتحدة “اليونيفيل”، التي مددت ولايتها لعام آخر في لبنان، عقدت اجتماعات بين الطرفين بشأن نقاط الخلاف التي تمنع ترسيم الحدود البرية بينهما.
٢- مراقبة نجاح اتفاق ترسيم الحدود البحرية: هدفت زيارة هوشستين إلى الوقوف على مجريات تنقيب بيروت عن الغاز في مياهها الإقليمية بناءً على اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية، والذي من شأنه مساعدة الدولة اللبنانية على الخروج من أزماتها الاقتصادية المتعددة. فقد جاءت الزيارة بعد نحو أسبوعين من وصول منصة التنقيب عن الغاز إلى مكان الحفر في المياه الإقليمية اللبنانية، وقبل أيام معدودة على بدء عملية التنقيب.
وهناك ربط بين مساعي الولايات المتحدة الأمريكية للتوسط بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البرية بينهما، ونجاح اتفاق ترسيم الحدود البحرية، حيث من شأن ترسيم الحدود البرية تخفيض التوتر بين إسرائيل ولبنان، والذي من شأنه، وفقاً للرؤية الأمريكية، تحقيق الاستقرار في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، ونجاح بيروت في التنقيب عن مصادر الطاقة في مياهها الإقليمية المتفق عليها بسلاسة ودون أي تهديد.
وتُشير تقديرات أمريكية، طبقاً لموقع “أكسيوس” في ٢٩ أغسطس الفائت، إلى أن الإدارة الأمريكية تتوقع أن يساعد بدء التنقيب عن الغاز بالمياه اللبنانية في كبح جماح حزب الله، في وقت تسعى فيه الحكومة اللبنانية لإيجاد مخرج من أزمتها الاقتصادية، وهو الرأي الذي يتفق معه عديد من المسئولين الأمنيين الإسرائيليين.
٣- ممارسة ضغوط من أجل الإصلاح الاقتصادي: تشير التقديرات الأمريكية إلى أن لبنان تمر بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخها الحديث والتي تعود جذورها إلى العقبات التي تواجه عملية إجراء الإصلاحات التي طالب بها المجتمع الدولي من أجل إطلاق مليارات الدولارات من القروض الميسرة والاستثمارات. ورغم قناعة الولايات المتحدة الأمريكية بإمكانية خروج بيروت من أزماتها الاقتصادية، فإنها بحسب تصريح المبعوث الأمريكي تشعر بخيبة أمل بسبب إهدار الساسة اللبنانيين كل الفرص التي كانت ستُخرج بيروت من عثراتها الاقتصادية والمالية. وقد أكد هوشستين على استمرار الدعم الأمريكي للبنان بينما تتخذ الخطوات لوضع البلاد على الطريق نحو النمو الاقتصادي.
٤- إنهاء أزمة الفراغ الرئاسي: أكد هوشستين أن عدم انتخاب رئيس جديد وعدم تشكيل حكومة تعمل بكامل طاقتها منذ أكتوبر الماضي، حيث تدير البلاد حالياً حكومة تصريف أعمال؛ ضار بالبلاد، وأن الشعب هو من يدفع الثمن الأكبر للمأزق السياسي الراهن، حيث تصاعدت الدعوات الأمريكية للتحرك السريع لانتخاب رئيس جمهورية جديد يتمتع بصفات تجنب لبنان المزيد من الكوارث.
وقد ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، في أول مايو الماضي، بعد ستة أشهر على نهاية رئاسة ميشال عون، والفشل في انتخاب رئيس جديد يخلفه؛ أن حل الأزمتين السياسية والاقتصادية في لبنان لن يتأتى إلا من الداخل اللبناني وليس من المجتمع الدولي، وهو ما يفرض على لبنان التحرك واختيار القيادة المناسبة القادرة على توحيد البلاد وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتعطي الأولوية لمصالح الشعب اللبناني، وتعمل على تحقيق الوحدة الوطنية وتنفيذ إصلاحات اقتصادية حاسمة، وأهمها تلك المطلوبة لضمان برنامج من صندوق النقد الدولي.
٥- مواصلة تقديم المساعدات الإنسانية: وسط الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يتعرض لها الشعب اللبناني، قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أكثر من ١٧,٤ مليون دولار إضافي من المساعدات الإنسانية، وذلك وفقاً لبيان الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في ١٤ يونيو الماضي، حيث ساهم انخفاض قيمة العملة والأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية في تدهور الأوضاع الإنسانية في مختلف أنحاء البلاد. وتحث الولايات المتحدة الأمريكية المانحين على زيادة استجابتهم للأزمة الإنسانية اللبنانية. وقد قدمت واشنطن منذ أكتوبر ٢٠٢٢ حوالي ٩٢ مليون دولار من المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني واللاجئين السوريين وغيرهم من اللاجئين في لبنان.
تخفيض التصعيد
بعد فترة من التعامل الأمريكي مع الملف اللبناني كملحق للملفات الكبرى في المنطقة، بدأت الإدارة تولي أهمية خاصة لحلحلة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية المتأزمة في لبنان. فقد هدفت التحركات الأمريكية الأخيرة بزيارة عاموس هوشستين للبنان إلى خفض التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وتجنيب الحدود اللبنانية-الإسرائيلية أي تصعيد أمني قد يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة، ولا سيما مع التهديدات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي والحزب خلال الفترة الماضية والتي من شأنها تهديد حالة الاستقرار على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. وهناك مخاوف أمريكية من أن يتحول أي حادث حدودي صغير بين إسرائيل وحزب الله بسرعة إلى صراع كبير في لبنان، والذي من المرجح أن تكون له تداعيات إقليمية أوسع.