يبدو أن مشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا سوف يحظى بمزيد من الاهتمام خلال المرحلة القادمة. وتبدو الأهمية الاستراتيجية للمشروع، بالنسبة للولايات المتحدة، والدول الغربية بصفة عامة، من منظور أن إنجاز الربط عبر مضيق جبل طارق سيساهم في رفع التبادل التجاري بين أوروبا وأفريقيا، وبالتالي زيادة النفوذ الغربي في القارة السمراء على حساب روسيا والصين، ولذلك تطالب الولايات المتحدة كلاً من المغرب وأسبانيا بتحديث الدراسات المتعلقة بهذا المشروع، وإنجاز الخطوات الأولى منه.
تنافس محموم
أعطى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دفعة جديدة لمشروع الربط القاري الذي يرمي إلى الربط بين القارتين الأوروبية والأفريقية عن طريق معبر ثابت، بل وأصبح محوراً للمنافسة بين أسبانيا وبريطانيا. إذ تسعى الدولتان إلى كسب رهان فتح أسواق جديدة في أفريقيا، مروراً بالمغرب التي تعتبر بوابة للقارة السمراء، وحلقة وصل بين القارتين.
وثمة عددٌ من المؤشرات الدالة على أهمية المشروع بالنسبة لكل من مدريد ولندن، وعلى التنافس بينهما حوله، تتبدى بوضوح كما يلي:
1- التطور الإيجابي في علاقات المغرب وأسبانيا: انعكس التطور الإيجابي في العلاقات بين الدولتين في الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الأسبانية بيدرو سانشيز، في 7 أبريل الماضي، إلى المغرب ولقائه العاهل المغربي الملك محمد السادس، وخصوصاً بعد إعلانه دعم أسبانيا للمقترح المغربي المتعلق بـ”الحكم الذاتي” بشأن الصحراء الغربية، حيث اعتبرت الشركة الأسبانية العامة “Secegsa” أن الوقت أصبح مناسباً لاستئناف المشروعات القديمة العالقة بين الرباط ومدريد.
وبحسب تقارير عديدة، فإن تقديرات الشركة، وهي المسئولة عن إجراء دراسات الجدوى الخاصة بالمشروع؛ تُشير إلى أن الموعد التقريبي لاستكمال النفق بين أسبانيا والمغرب قد يكون جاهزاً بين عامي 2030 و2040. والملاحظ أن تقديرات الشركة الأسبانية تتواكب مع مصادقة الحكومة المغربية، في 3 نوفمبر الماضي، على تعيين عبدالكبير زهود مديراً عاماً للشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق، المختصة بمتابعة المشروع من الجانب المغربي.
وقد سبق أن اتفق الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، والأسباني السابق خوان كارلوس، خلال زيارة الأخير للرباط عام 1979، على إجراء دراسات حول الربط القاري عبر مضيق جبل طارق، حيث عُقدت اجتماعات مختلطة إلى أن توقفت عام 2010. إلا أن تطبيع العلاقات بين الرباط ومدريد قد مهد الطريق لإعادة إطلاق مشروع نفق الربط القاري، الذي يربط مدينتي طريفة وطنجة، بطول 42 كم وعمق 300 متر، والمخصص لنقل البضائع وحركة الأشخاص، فضلاً عن إمكانية ربط هذا النفق وخط أنابيب الغاز (المغربي- النيجيري- الأوروبي).
2- تعزيز التعاون بين بريطانيا والمغرب: تعوِّل بريطانيا كثيراً على المغرب باعتبارها تُمثل بوابة مهمة نحو أفريقيا، ومنصة مفتوحة على الاستثمارات والمشروعات التنموية، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وما يرافقه من ضرورة البحث عن شركاء جدد وتنويع في خارطة التحالفات.
وكانت المغرب قد وقعت اتفاقاً تجارياً مع بريطانيا، في 26 أكتوبر عام 2019، استباقاً للانسحاب من التكتل القاري الأوروبي، لاحتواء التأثير المتوقع لهذه المغادرة الطوعية على الجانب البريطاني.
أما على الجانب المغربي، فقد استهدفت الرباط من الاتفاق تطوير علاقاتها الثنائية مع لندن، ولا سيما على الصعيدين التجاري والاقتصادي، وهو الهدف الذي تحقق عبر اتفاقية الشراكة الموقّعة بين الجانبين، ودخلت حيز التنفيذ في بداية يناير 2021، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واللافت أن فكرة وجود نفق أو جسر يربط بين المغرب وجبل طارق، الخاضع للسيادة البريطانية، ظلت موضوعاً للتفاوض بين لندن والرباط، منذ الحوار الاستراتيجي الأول بينهما، في 5 يوليو 2018، الذي نظمه بوريس جونسون وزير الخارجية آنذاك.
ومع تطور العلاقات التجارية مع المغرب، شرعت لندن بجدية في دراسة المشروع الذي سيربط أوروبا بأفريقيا، خاصة أن هناك مؤشرات تؤكد أن التعاون سيأخذ طريقه بين بريطانيا والمغرب، ربما أكثر من أسبانيا، لا سيما وأن هناك أكثر من مشروع بريطاني للتعاون مع المغرب، منها مشروع لمد خط بحوالي 3800 كم لنقل الكهرباء من المغرب، وهو أكبر خط في العالم، فضلاً عن الشركات البريطانية التي تحاول الاستثمار في منصات الكهرباء والصفائح الشمسية في جنوب المغرب.
3- تنافس لندن ومدريد على المشروع: تزامناً مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سارعت أسبانيا لتطبيع علاقاتها مع المغرب، خاصة بعد تأييدها المقترح المغربي بشأن الصحراء الغربية. ولعل ذلك يعود إلى القلق الأسباني من خطط لندن، وتوجهها لإنشاء تحالفات استراتيجية جديدة وإعادة ترتيب أوراقها الدبلوماسية، ولا سيما مع أفريقيا.
ومن ثمّ، ففي ظل التحركات الثنائية بين المغرب وبريطانيا، ستضطر أسبانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات للاستفادة من النتائج الآنية والمستقبلية لمشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا، الذي ربما سيُعيد إلى الواجهة مستقبل “جبل طارق” من جانب، ومستقبل مدينتى سبتة ومليلية من جانب آخر.
4- التعويل على أنبوب الغاز النيجيري: رغم أن مشروع الربط القاري عبر نفق تحت البحر، بين المغرب وأسبانيا، طرح منذ ما يزيد على أربعة عقود مضت؛ إلا أنه عاد إلى الواجهة بأهمية أكبر، خاصة بعد توقيع المغرب ونيجيريا اتفاقية إنجاز مشروع أنبوب الغاز، ودخول هذه الاتفاقية لمراحل متقدمة من التمويل وبداية التنفيذ.
وكما يبدو، فإن مشروع أنبوب الغاز الذي سينطلق من نيجيريا، مروراً بالعديد من بلدان غرب أفريقيا، وصولاً إلى المغرب ثم إلى أوروبا؛ أصبح مشروعاً ذا قيمة كبيرة في ظل الأزمات التي تعيشها القارة الأوروبية بشأن إمدادات الغاز القادمة من روسيا. وفي إطار البحث الأوروبي عن بدائل جديدة للغاز الروسي، تصاعد الحديث عن مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجيري في الإعلام الغربي عموماً، ومعه عاد الحديث عن مشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا عبر مضيق جبل طارق، لنقل الغاز والبضائع والمسافرين.
وقد نشرت وكالة “بلومبيرج”، في 21 يونيو الماضي، حواراً مع الرئيس النيجيري محمد بخاري، دعا فيه بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في مشروع أنبوب الغاز الذي سيربط نيجيريا بالمغرب عبر مسافة تصل إلى 4 آلاف كم، من أجل تحقيق أمن الطاقة لأوروبا. واعتبر بخاري أن هذا المشروع “هو المشروع الكفيل بإنهاء مشاكل القارة الأوروبية مع الطاقة”.
نقلة نوعية
يمكن القول إن مشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا، عبر مضيق جبل طارق، يمثل “نقلة نوعية” في التعاون الأوروبي-الأفريقي، بل وفي التعاون الأوروبي-الشرق أوسطي؛ إذ سيصبح مضيق جبل طارق طريقاً آمناً لمنتجات الطاقة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط. وبالطبع، ستنخفض تكلفة نقل الغاز الطبيعي بشكل كبير، من خلال البنى التحتية المزدوجة، بالنظر إلى الاهتمام الذي أبداه كل من البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية الأفريقي، والعديد من المانحين العرب بهذا المشروع.
ورغم المنافسة بين بريطانيا وأسبانيا لإنشاء النفق البحري، الذي سيربط أوروبا بأفريقيا، بل ورغم أن المشروع المغربي-البريطاني يمكن أن يحل محل المشروع المغربي-الأسباني، فإن عودة مشروع الربط القاري إلى الواجهة يمكن ربطه بالخطوات الأمريكية المتسارعة في قضية الصحراء الغربية، وتطوير العلاقات مع المغرب، خاصة في ظل الطابع الاقتصادي للخطوة الأمريكية، في محاولة مواجهة النفوذ المتعاظم لكل من روسيا والصين على الساحة الأفريقية.