أقدمت العراق على إقامة حاجز خرساني على الحدود مع سوريا، في 27 مارس الفائت، بهدف وقف تسلل الإرهابيين عبر الحدود، وتحديداً في منطقة جبل سنجار المقابلة لمحافظتي الحسكة ودير الزور على الجانب السوري، كمرحلة أولى، على امتداد 10 كم. وقد لجأت العراق إلى هذه الخطوة في ضوء محدودية تأثير خيار حفر الخنادق الذي تبنته خلال عام 2021، إضافة إلى عدم فاعلية الوسائل التقليدية في تأمين الحدود، مع تزايد القلق من ارتدادات محاولات تنظيم “داعش” المستمرة لاقتحام السجون، وصعوبة تأمين الحدود مع محافظتي الحسكة ودير الزور، فضلاً عن اكتشاف السلطات العراقية موجات من التسلل عبر الحدود باتجاه العراق أبرزها انتقال عناصر من لبنان منذ صيف 2021. ولكن ثمة تحديات تواجه هذا الخيار الجديد، منها إمكانية إقدام تنظيم “داعش” على تنفيذ عمليات تخريبية، وضرورة تشديد التأمين للحدود في النقاط خارج نطاق الحاجز وتحديداً في محافظة دير الزور، فضلاً عن فرض إجراءات صارمة خلف الحاجز الخرساني لإمكانية استهداف القوات العراقية، وزيادة الاعتماد على وسائل المراقبة التكنولوجية الحديثة.
أعلنت الحكومة العراقية، في 27 مارس الفائت، عن الانتهاء من بناء حاجز خرساني في محاولة لمنع تسلل العناصر الإرهابية عبر الحدود مع سوريا، والسيطرة على الأوضاع الأمنية غرب العراق، ودعم العمليات التي تنفذها السلطات العراقية لملاحقة عناصر تنظيم “داعش” الذي يسعى للعودة مجدداً، واستعادة نشاطه في مناطق نفوذه التقليدية. وتواصل السلطات عملياتها العسكرية والأمنية في أكثر من منطقة لمواجهة النشاط المتزايد لـ”داعش” خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث أطلقت، خلال الأسبوع الأخير من مارس الفائت، عمليتين عسكريتين باسم “الإرادة الصلبة” و”أسود الصحراء”، ولا سيما في محافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار شمال وغرب البلاد.
اعتماد متزايد
يتصاعد دور الحواجز (أو الجدران) الخرسانية في مجال تأمين الحدود بين الدول خلال السنوات الماضية، بصورة ملحوظة، في ظل التوترات التي تشهدها دول المنطقة منذ أحداث ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، وما فرضته من تداعيات أمنية، لجهة تصاعد دور التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة، إضافة إلى ظاهرة تدفق اللاجئين.
وشهدت المنطقة خلال السنوات الماضية بناء جدران خرسانية، إما لمواجهة الهجرة غير الشرعية واللاجئين، مثل الجدار الذي أعلنت تركيا عن إقامته على الحدود مع سوريا في محافظة إدلب، وبدأ العمل عليه منذ عام 2016، بعد تدفق اللاجئين من سوريا بسبب أوضاع الحرب، أو لأسباب أمنية مثل الجدار الذي أقامته إسرائيل على الحدود مع قطاع غزة. وبخلاف الحواجز في المناطق الحدودية، فإن العراق شهدت مثل هذه الحواجز فيما يُعرف باسم “المنطقة الخضراء” عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وهي منطقة أقامتها الولايات المتحدة الأمريكية وأحاطتها بحواجز خرسانية وأسلاك شائكة، باعتبارها منطقة آمنة.
أبعاد رئيسية
يمكن القول إن هذه الخطوة تعبر عن سياسة جديدة تتبناها الحكومة العراقية التي تتجه نحو إقامة حاجز خرساني على طول الحدود مع سوريا، ولكن من غير الواضح الجدول الزمني للإقدام على هذه الخطوة، إضافة إلى تكلفة إقامة هذا الحاجز وإمكانية توفيرها بالنظر إلى امتداد الحدود مع سوريا لمسافة أكثر من 600 كم. وقد كان لافتاً أن السلطات العراقية أقامت الحاجز الخرساني على الحدود في المناطق المقابلة لمحافظتي الحسكة ودير الزور كمرحلة أولى، وهي المناطق الأكثر خطورة في رؤيتها، حيث تخضع الأولى لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد)، فيما تتقاسم قوات الجيش السوري ومليشيات شيعية السيطرة على الثانية. وتشهد المحافظتان نشاطاً ملحوظاً لتنظيم “داعش”. وفي الجانب المقابل داخل الحدود العراقية، فإن الحاجز أقيم في منطقة قضاء سنجار في محافظة نينوى، باعتبارها أكثر المناطق الحدودية التي تشهد اختراقاً من قبل تنظيم “داعش”.
ويمتد ارتفاع الحاجز من سطح الأرض، وفقاً لتقارير عديدة، إلى نحو ثلاثة أمتار ونصف، وعلى مسافة 10 كم على طول الحدود بين الدولتين، وقد أقدمت السلطات العراقية على نشر قوات إضافية خلف الحاجز، إلا أن عددها ليس محدداً، في حين لم تُشر السلطات إلى أبعاد عملية التأمين باستخدام وسائل تكنولوجية، مثل الكاميرات الحرارية أو مستشعرات الحركة.
دوافع عديدة
يمكن تفسير هذه الخطوة التي أقدمت عليها السلطات العراقية في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- صعوبة تأمين الحدود بالوسائل التقليدية: تواجه العراق أزمة من جهة تأمين الحدود خلال السنوات الماضية، خاصة مع عدم قدرة قوات حرس الحدود على مواجهة الاختراق الأمني للحدود من قبل عناصر “داعش”، إلى الحد الذي دفع قوات الجيش إلى تسلم تأمين الحدود لدعم قوات حرس الحدود، قبل إعادة تسليم المهمة لها مجدداً خلال مطلع العام الجاري، وفي ظل امتداد الحدود لمسافة تتجاوز 600 كم، فإنه لا بد من دعم الجهود بوسائل غير تقليدية لتأمين الحدود.
2- محدودية تأثير حفر الخنادق على الحدود: تعكس تلك الخطوة محدودية تأثير خيار حفر الخنادق، الذي لجأت إليه العراق خلال عام 2021، حيث تزايدت الحاجة إلى وسائل أخرى بديلة أو مكملة، خاصة في ضوء تزايد قدرة “داعش” على التعايش مع التحديات والضغوط التي يتعرض لها على مدى الأعوام السبعة الماضية.
3- محاولات “داعش” المستمرة اقتحام السجون بسوريا: اتجهت العراق إلى بناء الحاجز الخرساني عقب محاولة اقتحام عناصر “داعش” لسجن “غويران” السوري في يناير الماضي، وحينها أعلن وزير الثقافة والمتحدث باسم الحكومة العراقية حسن ناظم، أن مجلس الوزراء وافق على تمويل وزارة الداخلية لمشروع بناء حاجز أمني خرساني على الحدود مع سوريا. وهنا فإن العراق تتخوف من ارتدادات محاولات “داعش” لاقتحام السجون في شمال شرق سوريا، التي تضم الآلاف من عناصره، وأمام المحاولات المستمرة، فمن شأن النجاح في تهريب تلك العناصر مستقبلاً أن يؤدي إلى تصاعد حدة التحديات الأمنية التي تواجهها العراق، مع إمكانية تسلل بعض تلك العناصر إلى الداخل العراقي.
4- استمرار ظاهرة تسلل العناصر الإرهابية: لا ينفصل ذلك عن محاولات العراق مواجهة تسلل عناصر “داعش” عبر الحدود مع سوريا. وقد كشفت تقارير عديدة، في يناير الماضي، عن انتقال عناصر من لبنان إلى العراق منذ صيف 2021 على دفعات عبر الحدود السورية. كما أن السلطات العراقية أعلنت إحباط تسلل 62 فرداً من سوريا إلى الأراضي العراقية، في الشهر نفسه. وبشكل عام، تُساعد عمليات تأمين الحدود في دعم جهود الجيش العراقي في ملاحقة عناصر “داعش” وحرمانه من تعويض النقص في العناصر التي تسقط خلال العمليات العسكرية.
5- عقبات مراقبة الحدود مع الحسكة ودير الزور: بالنظر إلى أن المرحلة الأولى من الحاجز الخرساني كانت في الجهة المقابلة لمحافظتي الحسكة ودير الزور، وتحديداً في مناطق تخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، فإن ذلك يُوحي بتراجع قدرة الأخيرة بشكل كامل على ضبط الحدود بين الجانبين، في ظل الانشغال بمواجهة خلايا “داعش” التي تسللت إلى مناطق شمال شرق سوريا منذ الربع الأخير من العام الماضي بشكل رئيسي، كما أن باقي الحدود وتحديداً في دير الزور تخضع لسيطرة مليشيات شيعية، وهي أيضاً منشغلة بدورها في ملفات أخرى، مثل التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل داخل سوريا.
تحديات مختلفة
رغم ذلك، فإن ثمة تحديات عديدة تواجه هذا الخيار، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تأمين الحدود على النطاق الأوسع: في ظل قدرة تنظيم “داعش” على التكيف مع المتغيرات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال السنوات الثلاث الماضية على وجه التحديد، فمن المتوقع اتجاه التنظيم إلى البحث عن خيارات بديلة لتسلل العناصر عبر الحدود بين الدولتين، على اعتبار أن الدولتين تمثلان “القيادة المركزية” له. وقد قُتل اثنان من قادته، هما أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم الهاشمي في محافظة إدلب السورية، وبالتالي قد يلجأ التنظيم إلى استخدام نقاط على الحدود بعيداً عن الحاجز، بصورة تستدعي رفع مستوى التنسيق مع الجانب السوري لفرض رقابة أكثر شدة في المناطق الحدودية التي تخضع لسيطرته.
2- إمكانية تعرض الحاجز لعمليات تخريب: قد يُقدم تنظيم “داعش” على تنفيذ عمليات تخريبية للحاجز الخرساني باستخدام متفجرات خلال الفترة المقبلة، بهدف هدم أجزاء من هذا الحاجز، وعلى مستوى أكثر من نقطة عبر الحدود، بما يسمح بتسهيل عملية تسلل العناصر بين الجانبين بشكل فردي وليس في إطار مجموعات، مع التنسيق بين مجموعاته في العراق وسوريا على حد سواء.
3- الاعتماد على الأجهزة الحديثة وقوات التأمين في المراقبة: تفرض تحركات “داعش” ضرورة الاعتماد على وسائل المراقبة التكنولوجية التي قد تكون فاعلة بصورة كبيرة. ورغم أن الحكومة العراقية سعت إلى وضع قوات خلف الحاجز للمساهمة في عملية التأمين، إلا أن تحقيق هذا الهدف يتوقف على طبيعة عملية الانتشار وعدد القوات المكلفة بالتأمين خلف الحاجز، وتوفير عمليات إسناد ودعم قريب، خاصة مع إمكانية استهدافها من مجموعات “داعش” من الجانب العراقي بشكل مستمر.
قيود متصاعدة
ختاماً، يمكن القول إن إقامة حاجز خرساني على الحدود قد يدعم جهود السلطات العراقية في تحجيم تسلل العناصر الإرهابية من سوريا إلى العراق خلال الفترة المقبلة، بالنظر إلى عدد من الإجراءات الأخرى، مثل حفر الخنادق وإعادة نشر قوات حرس الحدود مطلع العام الجاري، ولكن من غير المتوقع الوقف الكامل لعملية التسلل عبر الحدود، في ضوء وجود أكثر من نقطة يمكن التسلل من خلالها، بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك.