أزمة النخبة الفكرية العربية – الحائط العربي
أزمة النخبة الفكرية العربية

أزمة النخبة الفكرية العربية



الافكار لا تموت، ولكنها تتوارى خجلا حين يتصدى لها الانتهازيون والتجار والمؤلفة جيوبهم، وتغيب قليلا حزنا حين لا تجد من هو مستعدا لأن يحملها، وفكرة الامة العربية توارت خجلا وحزنا لأكثر من ثلاثين عاما، ومازالت قابعة هناك تنتظر من يليق بحملها، ويستعد للتضحية من أجلها، والمقصود بفكرة الأمة العربية هنا ليس المشروع السياسى، او تحقيق حلم الوحدة السياسية فى اى صورة من الصور؛ لأن هذا الهدف أصبح أبعد ما يكون فى عصرنا هذا. بل ان العرب تراجعوا خطوات فلكية عن الحلم الذى ساد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، فأصبح غاية الحلم الآن المحافظة على الدول الوطنية؛ التى كان ينظر اليها الوحدويون بقليل من الاعتبار، ويطلقون عليها الدولة القطرية التى هى النقيض الفلسفى للوحدة العربية. المحافظة على وجود هذه الدولة القطرية صار حلما حل محل حلم الوحدة العربية، لأن هناك من الدول العربية القطرية ما انشطر كقنبلة عنقودية متوالية التفكك والانشطار.

وإنما المقصود بفكرة الأمة العربية هنا هو المشترك الفكرى والثقافى والحضارى، هو وجود العقل الجمعى العربى، ووجود العقل السياسى العربى ممثلا فى النخبة الفكرية، او الطبقة المثقفة؛ التى تحافظ على استمرارية الإدراك الجمعى بالمصالح المشتركة، وبالتاريخ المشترك، وبالمستقبل المشترك، وتساعد فى الاتفاق على الحدود العليا للتعاون، والحدود الدنيا للخلاف ناهيك عن الصراع. هذا الادراك الجمعى تصنعه فى العادة النخبة الفكرية، وتنشره الطبقة المثقفة من خلال وسائل الاعلام التقليدية والحديثة، ويستقر فى الوعى الجمعى للشعوب العربية، بحيث تكون لديها الرؤية الواضحة، والفهم الصحيح لما يجرى حولها من أحداث. هذا النوع من الوعى الجمعى نجده حاضرا فى أوروبا عندما تعلق الامر بالأزمة الأوكرانية، ونجده حاضراً فى افريقيا حين يتعلق الأمر بقضايا دولها وشعوبها، ولكن للأسف الشديد تراجع الى حد الانزواء والاختفاء فى العالم العربى.

وهذا بدوره يجعل النظر فى واقع النخبة الفكرية العربية أمراً فى غاية الأهمية، لأنها أصل الداء، ومنها يأتى الدواء، ولأنه بدون أن تستعيد دورها لن يتغير فى الواقع العربى شيء، ولأنه هو المسئولية فى كثير من الأحوال عن تقديم الرؤى والخيارات والبدائل فى عمليات صنع السياسات فى العديد من المواقع والمستويات. ولذلك فإن إعادة وجود هذه النخبة الفكرية، واستعادتها دورها امر فى غاية الاهمية لبداية اصلاح الواقع العربى الراهن الذى تتعالى الاصوات من مختلف الجهات داعية لإصلاحه. ومن أجل الاصلاح لابد من معرفة مواطن الخلل وأسبابه، وفى النقاط الآتية بعض الملاحظات التى قد تسهم فى تجلية الحقيقة وتستثير الافكار حولها:

أولا: دور المؤسسات الفكرية العربية فى صناعة النخب العربية، والتقريب بينها، وخلق حالة من التفاعل والتفاهم والعمل المشترك، هذه النوعية من المؤسسات كانت فاعلة فى النصف الثانى من القرن العشرين، سواء فى صورة مراكز أبحاث، او مؤسسات ثقافية كبرى تابعة للدول العربية؛ مهمتها الأساسية تناول القضايا التى تهم العرب جميعا، سواء فى المجالات الفكرية، أو الأدبية، أو الثقافية، أو التاريخية، أو السياسية. هذه المؤسسات الفكرية تراجعت كثيرا منذ تسعينيات القرن الماضى، وانشقاق الأخدود الثقافى العربى بعد كارثة احتلال العراق الكويت. وما بقى من هذه المؤسسات؛ اما ضعيف التمويل، أو منغلقا قطريا على ابناء الدولة التى يوجد فيها، والقليل جدا منها الذى حافظ على الانفتاح على باقى الدول والشعوب العربية.

المؤسسات الفكرية هى الحاضنة التى تخلق مشتركا فكريا وثقافيا بين الباحثين من مختلف الشعوب العربية، وتشكل منهم بعد طول ممارسة وتفاعل نخبة فكرية واحدة، ودون وجود هذه المؤسسات على المستوى العربى سوف يتم تشكيل نخب ثقافية وفكرية منعزلة فى كل دولة من الدول؛ قد يخلق بينها حالة من العداء والمواجهة الفكرية مباراة كرة قدم بين دولتين، وفى هذه الحالة يكون المثقفون تابعين للاعبين، وهى حالة سريالية عجيبة.

ثانيا: الازمة الجيلية فى الثقافة العربية، بحيث تجد الجيل الذى تشكل فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وكاتب هذه السطور منهم، ليس على نفس القدر من التكوين والاهتمام بالقضايا العربية المشتركة مثلما كان جيل اساتذتهم، بحيث شهد عام 1986 آخر الاعمال العلمية العميقة، والتى تقدم رؤية عملية محكمة للعمل العربى المشترك، هو كتاب النظام الاقليمى العربي: دراسة فى العلاقات السياسية العربية لاثنين من الاساتذة الذين تتلمذ جيلى عليهم هما: الدكتور على الدين هلال، والدكتور جميل مطر، وبعد ذلك لم يقدم الجيل التالى اعمالا تجترح حلولا للعالم العربى لمواجهة الأزمات التى توالت بعد ذلك، وتقترح بدائل للعمل العربى المشترك الذى لم يعد فى الامكان أن تطلق عليه النظام الاقليمى، لأنه فقد أسس فكرة النظام.

ثالثاً: حالة التشتت الأيديولوجى للطبقة المثقفة العربية، فمع انتشار حركات توظيف الدين للأغراض السياسية، وتصاعد حالة المواجهة الأيديولوجية بين من ينتمون للتيارات الاسلامية السنية والشيعية، وبين من ينتمون للتيارات القومية واليسارية والليبرالية، لم يعد هناك نخبة فكرية عربية، بل صارت نخبا فكرية ايديولوجية يقودها فى العادة عقول ادنى بكثير من درجة المفكر، ومن ثم صارت الفكرة فى خدمة الحزب أو الطائفة أو التيار الأيديولوجى، وتحولت النخبة الفكرية العربية الى ادوات فى خدمة مشروعات سياسية، ومن يتابع الأزمة فى السودان وليبيا والعراق سيجد من الأدلة ما يكفى. وللحديث بقية.

نقلا عن الأهرام