تتجه الإدارة الأمريكية إلى إعادة نشر قوات “كوماندوز” في الصومال مجدداً خلال الفترة المقبلة، بناء على موافقة الرئيس جو بايدن، وفقاً لما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 16 مايو 2022، مع الإشارة إلى تأكيدات المتحدثة الرسمية باسم مجلس الأمن القومي أدريان واتسون، على هذه الخطوة. وتأتي موافقةُ إدارة بايدن على نشر قوات أمريكية في الصومال، بعد طلبين من مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية للبيت الأبيض، الأول كان في يوليو 2021، وحينها قال قائد قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا الجنرال ستيفين تاونسيند، إنه من “الصعوبة بمكان تدريب القوات الصومالية ونُصحها ومساعدتها عن بُعد”، والثاني كشفت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في مارس الماضي، في ظل تحذيرات من تداعيات قرار الانسحاب الذي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب قبل انتهاء فترته ولايته.
وتشير بعض التقديرات في الإدارة الأمريكية، إلى أن الانخراط لمواجهة حركة “الشباب” يأتي في ظل تقييم مرتفع لخطورة الحركة، مع الإشارة إلى أن إنهاء القتال العسكري يحتاج إلى تضافر الجهود الدبلوماسية والسياسية، التي لا تزال غائبة عن المشهد الحالي.
ويمكن الوقوف على أبعاد العودة المنتظرة للقوات الأمريكية إلى الصومال، على النحو التالي:
تقييم متقدم
1- محددات الرؤية الأمريكية في مكافحة الإرهاب بالإقليم: على الرغم من طلب وزارة الدفاع الأمريكية إعادة تقييم الانسحاب من الساحة الصومالية بعد تولي بايدن الحكم، إلا أن القرار لا يُعبر عن استجابة فورية، حتى مع التقييمات الاستخباراتية والعسكرية الأمريكية لنشاط حركة “الشباب” في أعقاب هذا الانسحاب، وهنا فإن الإدارة الأمريكية الحالية أخضعت قرار إعادة نشر القوات في الصومال لعملية تقييم متقدمة قادتها إليزابيث شيروود راندال، كبيرة مستشاري البيت الأبيض لمكافحة الإرهاب، لاعتبارات عديدة يكمن أهمها في أن إعادة نشر القوات لا يتعلق بالحالة الصومالية فقط، وإنما بشكل أوسع بالاستراتيجية الأمريكية للانخراط العسكري العملياتي في مكافحة الإرهاب.
وهو ما اتضح جلياً مع تراجع أولوية هذا الملف، والاتجاه إلى سحب القوات من أفغانستان والعراق في العام الماضي، في ظل جدلية جدوى الانخراط الأمريكي في عملية “طويلة الأمد”، وما يتصل بذلك من تكلفة مادية وبشرية كبيرة، مع عدم تمكن الولايات المتحدة من إحداث تغيير استراتيجي على مستوى الصراعات هناك، رغم تحقيق بعض النجاحات على المستوى الأمني والعسكري، مع الأخذ في الاعتبار أن الانخراط الأمريكي في الصومال مجدداً يمثل تراجعاً عن النهج الأمريكي في سحب القوات، وهو ما قد يفتح مجالاً لإمكانية الانخراط في ساحات أخرى تحت بند “الضرورة”.
انخراط ضروري
2- دوافع رئيسية للتراجع عن سحب القوات الأمريكية من الصومال: ثمة عوامل عديدة ربما دفعت الولايات المتحدة للانخراط مجدداً في الساحة الصومالية، أولاً: النشاط العملياتي لحركة “الشباب”، إذ تتحرك لاستعادة السيطرة على المناطق التي كانت تحت سيطرتها مع التصعيد في العاصمة ومحيطها. وتشير بعض التقديرات الغربية إلى أن حركة الشباب بدأت تتحرك باتجاه القرى في محيط الولايات، وسط تخوفات من تكرار تجربة سيطرة حركة “طالبان” على أفغانستان، بغض النظر عن الاختلاف بين الحالتين. وثانياً: انعكاسات هذا النشاط العملياتي لـ”الشباب” على دول الجوار في كينيا وجيبوتي، وتأثيرات ذلك على منظومة الأمن في القرن الأفريقي، وتداعيات ذلك على الملاحة في البحر الأحمر.
وثالثاً: احتمالية تنفيذ “الشباب” عمليات خارجية لاستهداف المصالح الأمريكية في الداخل أو الخارج. فعلى سبيل المثال، نفّذت الحركة هجوماً عام 2020 على قاعدة تضم قوات أمريكية، إضافة إلى توجيه المدعي العام في مانهاتن في ديسمبر 2020، اتهامات لأحد العناصر المرتبطين بـ”الشباب” من كينيا، بالتخطيط لهجوم مماثل لهجوم 11 سبتمبر. ورابعاً: تبين عدم فاعلية القوات التي دربتها الولايات المتحدة في مواجهة النشاط المتزايد لـ”الشباب”، إلى حد إشارة التقديرات الأمريكية إلى فاعلية القوات المحلية حينما تعمل تحت قيادة القوات الأمريكية وفي ضوء توجيهاتها. وخامساً: اتجاه القوات الأفريقية إلى الانسحاب من الصومال خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن انتهاء عملها كان مقرراً في ديسمبر الماضي، وتم مد عملها لثلاثة أشهر إضافية لتأمين الانتخابات، وقبلها انسحاب القوات الإثيوبية بفعل الصراع المسلح هناك.
تحولات متوقعة
3- تحجيم النشاط بدلاً من النصر الحاسم: في الحالة الصومالية، تشير بعض التقديرات الأمريكية إلى أن الانخراط في الصومال لم يحرز تقدماً في هزيمة حركة “الشباب”، وبالتالي تصاعدت الدعوات إلى تبني الولايات المتحدة رؤية جديدة للتعامل مع الوضع في الصومال لا تعتمد على “النصر الحاسم” في مواجهة حركة “الشباب”. بمعنى آخر ضرورة اعتماد مقاربة شاملة لملف الإرهاب، جزء منها التفاوض مع الحركة. ويبدو من خلال المعلومات الأولية المتوفرة حول القرار الأمريكي وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، أن الانخراط الأمريكي في الساحة الصومالية ربما يأخذ في الحسبان عدم التركيز على “النصر الحاسم”، دون الإشارة إلى مسألة دعم حوار بين السلطات الصومالية وحركة “الشباب”.
ويتضح ذلك من شكل وطبيعة الانتشار، أولاً: الانخراط المستمر، بمعنى استمرار وجود القوات الأمريكية على الأراضي الصومالية، وعدم اتّباع النهج السابق المعتمد على دورية الدخول والخروج للقوات من الصومال بما يُعرض القوات للخطر، إضافة إلى تحقيق أكبر فاعلية ممكنة. وثانياً: توسيع عمليات استهداف قيادات الحركة، إذ تشير بعض المعلومات إلى موافقة بايدن على “بنك أهداف” لقيادات “الشباب” يضم 10 شخصيات، بهدف إضعاف قدرات الحركة، واستهدافهم من قبل الطائرات من دون طيار، وهو تحول في ضوء اقتصار توجيه ضربات جوية على دعم القوات التي دربتها أمريكا، إضافة إلى تحجيم إدارة بايدن مشاركةَ الطائرات من دون طيار في الساحات في ضوء مراجعة قواعد الاستهداف. وثالثاً: قد يصل عدد القوات الأمريكية في الصومال إلى نحو 450، وهو أقل من القوات التي كانت منخرطة في السابق وقوامها نحو 700 فرد، بما يشير إلى عدم إقدام الولايات المتحدة على انخراط موسع بعدد كبير من القوات.
دلالة التوقيت
4- رهان على مرحلة استقرار سياسي بعد الانتخابات: ثمة ملاحظة رئيسية حيال الحديث عن قرار بايدن بإعادة نشر قوات أمريكية في الصومال، تتعلق بتوقيت الكشف عن هذا القرار، وأنه جاء بعد إتمام الانتخابات الصومالية وانتخاب رئيس جديد بأيام قليلة، بما يشير إلى رهان أمريكي على مرحلة من الاستقرار السياسي بعد الانتخابات، بما يسمح بفاعلية أكبر لنشر القوات المنتظرة، في ضوء معوقات سابقة منها، أولاً: توترات بين الإدارة الأمريكية والنظام السابق، وسبق أن اتخذت الولايات المتحدة موقفاً تصعيدياً بسبب ما اعتبرته “عرقلة” للانتخابات، بعدما رفضت منح تأشيرات لعدد من الشخصيات في المشهد الصومالي، وفقاً لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. ثانياً: انعكاسات الخلاف السياسي على الحالة الأمنية، حيث بدا أن تأثيرات الخلافات السياسية تمتد إلى الحالة الأمنية في الصومال، من خلال اشتباكات بين مكونات من الجيش الصومالي موالية للأطراف المختلفة بعد رفض رئيس الوزراء التجديد للرئيس السابق محمد عبدالله “فرماجو” عامين إضافيين في ولايته المنتهية، وبالتالي فإن انتخاب سلطة جديدة قد يؤدي إلى مرحلة استقرار سياسي.
استراتيجية محددة
وأخيراً، فإن الانخراط الأمريكي بإعادة نشر قوات برية، وتوسيع عمليات استهداف قيادات حركة “الشباب” الفاعلة باستخدام الطائرات من دون طيار؛ يمثل خطة لإنقاذ الوضع المضطرب ميدانياً، وتحجيم نشاط الحركة التي يتراوح عدد عناصرها بين 5 آلاف إلى 10 آلاف، وفقاً لتقديرات استخباراتية، واعتبارها أخطر الجماعات المرتبطة بتنظيم “القاعدة” في أفريقيا، في ظل استمرار قدرتها على توفير التمويل اللازم لعملياتها، وعمليات التجنيد على نطاق موسع، وبالتالي فإن الانخراط الأمريكي يحتاج إلى إعادة رسم استراتيجية محددة للتعاطي مع الوضع في الصومال، لا تعتمد فقط على المقاربة الأمنية العسكرية، وإنما تحسين الوضع الاقتصادي وتحقيق التماسك السياسي لمواجهة العوامل المغذية للتطرف والإرهاب، خاصة مع عدم قدرة القوات المحلية، بما في ذلك القوات التي دربتها القوات الأمريكية على ضبط الوضع الأمني في البلاد.