اهتمام متصاعد:
أبعاد المقاربة التركية للسيطرة على موانئ الغرب الليبي

اهتمام متصاعد:

أبعاد المقاربة التركية للسيطرة على موانئ الغرب الليبي



شكّلت ليبيا ساحة هامة للتدخل التركي بالمنطقة، حيث لم يتوقف هذا التدخل على الجانب العسكري ومحاولة التأثير في ديناميات الصراع الليبي، ولكن البعد الاقتصادي كان حاضراً بصورة رئيسية في السياسة التركية تجاه الأزمة الليبية، ولا سيما أن الأزمة متداخلة مع ملف الطاقة في شرق المتوسط، وتجلى هذا البعد الاقتصادي مؤخراً مع التحركات التركية المتزايدة التي تستهدف إحكام السيطرة على الموانئ الليبية، إذ تشير بعض التقارير إلى تقاسم شركات تركية الموانئ والمطارات الليبية في غرب ليبيا.

تعزيز الحضور

كشف تقرير استخباراتي لموقع “Africa Intelligence”، بتاريخ 27 أغسطس الماضي، عن أن اثنتين من أكبر شركات المقاولات التركية، وهما “البيرق” و”يلدريم”، تتقاسمان برنامج السيطرة على الموانئ والمطارات الليبية ما بين مصراتة وطرابلس. وقد لفت التقرير إلى أن شركة “يلدريم” تقوم بتجهيز عرض تخطط من خلاله للحصول على امتياز إدارة محطة الموانئ في المنطقة الحرة بمصراتة، والتي تعتبر مركز الشحن البحري الرئيسي في ليبيا.

وعكس هذا التقرير الاهتمام المتصاعد من قبل أنقرة بالانخراط الاقتصادي في ليبيا، حيث كانت مجموعة “كرانفيل” التركية قد أعلنت في بيان لها أواخر يونيو الماضي، أنها باشرت تنظيم رحلات النقل البحري “رورو” من تركيا إلى ليبيا، “من أجل زيادة حجم التجارة بين البلدين”، حيث تقوم الشركة بنقل الحاويات من موانئ إسطنبول وقوجة إيلي وصامصون وإزمير ومرسين وإسكندرون التركية إلى مصراتة، وهي الخطوة التي قرأتها تقديرات على أنها جزء من التحركات التي تستهدف تعزيز الاستفادة والاستنزاف التركي لموانئ ليبيا.

وفي السياق ذاته، تقدمت مجموعة “البيرق” التركية بعرض، في شهر يوليو الفائت، يستهدف حصول المجموعة على امتياز إدارة الجزء التشغيلي من المنطقة الحرة بمصراتة، لمدة 25 عاماً، ونص عرض “البيرق” على تطوير البنية التحتية للمنطقة. وكان من المقرر استخدام نسبة 10٪ من الإيرادات لتوفير المساعدة المالية للشركات التي ترغب في إثبات وجودها في المنطقة الحرة، وهو شرط يمكن استخدامه لمساعدة الشركات الصناعية التركية.

جدير بالذكر أن مجموعة “البيرق للمقاولات” تتبع صهر الرئيس “رجب طيب أردوغان”، فيما تعتبر شبكة “يلديريم” إحدى الشركات في إمبراطورية رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية “بن علي يلدريم” وأولاده، وتعكس تحركات الشركتين فيما يتعلق بمنطقة مصراتة الحرة الكيفية التي تتناوب بها الشركتان من أجل السيطرة على المنافذ الجوية والبحرية الليبية.

أهداف استراتيجية

توجد جملة من المكتسبات والأهداف التي تسعى تركيا إلى تحقيقها من وراء السيطرة على الموانئ الليبية، وذلك على النحو التالي:

1- الحصول على موطئ قدم في المتوسط: تحاول أنقرة تحويل موانئ الغرب الليبي إلى قاعدة خلفية للأنشطة التركية في منطقة شرق المتوسط، وقد عبر عن هذه الرغبة بشكل واضح ما تم في شهر أغسطس 2020، من اتفاق تركي-قطري مع حكومة الوفاق السابقة، على تفعيل ميناء مصراتة كقاعدة للقطع البحرية التركية العاملة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتضمن الاتفاق الثلاثي في ذلك الوقت إنشاء مركز تنسيق عسكري مشترك، وإعادة تأهيل المراكز الأمنية ومقرات التدريب في طرابلس بتمويل قطري، إضافةً إلى إعطاء مقاعد لليبيا في الكليات العسكرية التركية والقطرية.

كما حاولت تركيا في عدد من المرات استخدام ميناء “الخمس” البحري، الذي يقع على البحر المتوسط ويُصنف على أنه واحد من أفضل الموانئ الليبية، من أجل تعزيز الحضور في منطقة شرق المتوسط، والحصول على موطئ قدم فيها، خصوصاً في ظل تشابكات الجغرافيا البحرية التي تربط ليبيا بمنطقة شرق المتوسط، وبالتالي فإن تركيا تسعى إلى توظيف سيطرتها على موانئ الغرب الليبي سياسياً بما يمكنها من امتلاك أوراق ضغط في الصراع الإقليمي والدولي شرق المتوسط.

2- تعظيم المكاسب الاقتصادية: ترتبط تركيا بمصالح تجارية واقتصادية واسعة مع ليبيا، وهي المصالح التي تتعاظم أهميتها بالنسبة لأنقرة في ضوء الدور الكبير لرجال الأعمال في صنع وتشكيل السياسة الخارجية التركية، فضلاً عن الرغبة التركية في الاستفادة من الفرص الاستثمارية الكبيرة لليبيا في عملية إعادة الاعمار، كذلك تعاني تركيا في الآونة الأخيرة من عجز كبير في ميزان التجارة مع العالم، مما أظهر تراجعاً كبيراً في قيمة صادراتها، وبالتالي فإن تركيا مع سيطرتها على بعض موانئ الغرب الليبي عبر شركاتها الخاصة، تستطيع احتكار السوق الليبية، والتعامل مع المنتجات التركية.

3- تعزيز الحضور في إفريقيا: لا تنفصل التحركات التركية التي تستهدف السيطرة على موانئ الغرب الليبي، عن مقاربة تركيا التي تستهدف ضمان حضور استراتيجي قوي في القارة الإفريقية، ومزاحمة حضور بعض القوى الإقليمية والعالمية الأخرى في دول القارة، وتحاول تركيا من أجل ذلك استغلال الموقع الجيواستراتيجي المهم لليبيا، حيث تربط بين الشرق الأوسط، وأوروبا، وإفريقيا جنوب الصحراء، فضلاً عن أن منطقة الغرب الليبي خصوصاً تضم ميناء مصراتة الذي يعد أهم ميناء تجاري ليبي من وإلى إفريقيا.

وتتعاظم أهمية هذا التوجه لدى تركيا في ظل نظرتها إلى إفريقيا على أنها بديل استراتيجي قوي للتعثرات الكبيرة التي يعاني منها الحضور التركي في بعض مناطق النفوذ التقليدية في الشرق الأوسط، ناهيك عن تراجع فرص الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي، خصوصاً في ظل القدرات الاقتصادية والطاقوية والجيواستراتيجية الكبيرة للقارة الإفريقية.

5- منافسة القوى الدولية: تنطلق تركيا في تحركاتها للسيطرة على موانئ الغرب الليبي، وتحركاتها في ليبيا بشكل عام، من قناعة مفادها أن تعزيز الحضور في ليبيا لن يتوقف عند حدود زيادة المصالح المباشرة لتركيا في هذه الدولة المهمة، بل سيمتد أيضاً لمصالح مرتبطة بالتفاعلات الإقليمية والدولية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل الانخراط والتنافس الإقليمي والدولي الكبير في ليبيا، وبالتالي تستهدف تركيا عبر ترسيخ حضورها في ليبيا وجعله أمراً واقعاً دعم مصالحها المباشرة، والتحرك من أجل عرقلة تحركات المنافسين الآخرين.

مدخلان رئيسيان

تعتمد تركيا على مدخلين رئيسيين في مساعيها للسيطرة على الموانئ الليبية:

1- الاعتماد على الحلفاء: راهنت تركيا من أجل تأمين مصالحها في الغرب الليبي بما في ذلك ملف السيطرة على الموانئ الحيوية في تلك المنطقة، على حلفائها المحليين، خصوصاً حكومة الوفاق السابقة، حيث تم توقيع مذكرتي تفاهم بين رئيس حكومة الوفاق المنحلة “فايز السراج” والرئيس التركي “أردوغان”، في 27 نوفمبر 2020، حول حرية تركيا في استخدام المجال الجوي الليبي، وإقامة القواعد العسكرية دون استئذان السلطات الليبية، وكذلك حماية الحقوق البحرية للبلدين بما يعني اقتسام المنطقة البحرية الخالصة، لكن البعد الأهم في هذه الاتفاقات تمثل في محاولة تركيا “شرعنة” حضورها وأطماعها في ليبيا عبر الاتفاق مع الوفاق.

وقد ترتب على هذه الاتفاقات دعم أنقرة لحكومة الوفاق بمستشارين عسكريين، وطائرات من دون طيار، ومنظومات دفاع جوي متطورة، بالإضافة إلى دعمها بالآلاف من المرتزقة السوريين المتحالفين مع أنقرة، وهو ما مكّن حكومة الوفاق من إعادة بسط السيطرة على الغرب الليبي، بما في ذلك مرفق الموانئ الذي تسيطر عليه تركيا بشكل كبير.

2- الأقليات “التركمانية” في الغرب الليبي: في محاولة لتمرير تدخله العسكري في ليبيا من أجل دعم حكومة الوفاق، تحدَّث الرئيس التركي عن أن ليبيا هي من “إرث الأتراك”، وأنها كانت جزءاً مهماً من الدولة العثمانية، وزعم أن هناك مليون ليبي من أصول تركية يستحقون دعمه والتدخل لنجدتهم والوقوف بجانبهم. وقد أشارت تقديرات ليبية إلى أن عدد الليبيين من أصول تركية لا يتجاوز 300 ألف نسمة، منهم نحو 160 ألفاً في مصراتة، ويتوزع الباقي في بعض مدن الغرب الليبي كالعاصمة طرابلس وزليتن والزاوية والخمس وتاجوراء وغريان، وقد عكست هذه التصريحات من الرئيس التركي رغبته في إثارة النزعات الإثنية لدى هؤلاء من أجل تمرير مساعيه للحضور في غرب ليبيا، والسيطرة على الموانئ الرئيسية في هذه المنطقة الحيوية.

إجمالاً، تستهدف تركيا من تحركاتها للسيطرة على موانئ الغرب الليبي، توظيف ذلك كأحد المداخل التي قد تمكن أنقرة من أن تكون مركز تجميع الغاز بالمتوسط ونقله إلى أوروبا، مع تعزيز مكاسبها الاقتصادية والتجارية في ليبيا، خصوصاً في ظل أزمتها الاقتصادية، فضلاً عن أن السيطرة على مَرفأ الموانئ سوف يعزز من الحضور التركي في ليبيا ويجعلها أحد الفاعلين الرئيسيين في الأزمة، وهو هدف استراتيجي بالنسبة لأنقرة.