مخاطر التوسع:
أبعاد السياسة التركية تجاه أفغانستان بعد وصول طالبان للسلطة (ملف خاص)

مخاطر التوسع:

أبعاد السياسة التركية تجاه أفغانستان بعد وصول طالبان للسلطة (ملف خاص)



شكّلت التحولات التي شهدتها أفغانستان مؤخرًا بعد الانسحاب الأمريكي وسيطرة حركة طالبان على السلطة، فرصة سانحة لأنقرة لتوسيع نفوذها الإقليمي. فعلى مدار السنوات الماضية، تبنت تركيا استراتيجية تقوم على نهج التحوط الثلاثي الذي يوازن بين حكومة كابل وحلف شمال الأطلنطي وحركة طالبان. وعلى الرغم من المشاركة التركية في قوات الحلف المشاركة في غزو أفغانستان، فقد تجنبت قدر الإمكان الانخراط في عمليات قتال مباشر ضد حركة طالبان، واعتمد دورها بصورة رئيسية على تقديم المساعدات والتدريب العسكري، ودعم الموظفين، ومجموعة متنوعة من خدمات النقل والخدمات اللوجستية.

وبالتوازي مع هذا التوجه تجاه حلف شمال الأطلنطي وحكومة كابل، أبقت أنقرة على قنوات للتواصل مع حركة طالبان، سواء عبر الاستخبارات أو حتى من خلال توفير المساعدات والخدمات الطبية للفئات التي تهم حركة طالبان، ولعل هذا ما اتضح مع إنشاء مستشفى عسكري تركي في كابل، في حي يكثر فيه البشتون، وقدمت المستشفى خدماتها للأفغان لأكثر من عقد قبل أن يتم إغلاقها عام 2015. وكان لهذه الاستراتيجية انعكاساتها على السياسة التركية الراهنة بعد وصول طالبان للسلطة، والحديث المتنامي عن طلب الحركة من تركيا المساهمة في إدارة وتأمين مطار كابل.

أهداف متنوعة

ترتبط السياسة التركية تجاه أفغانستان بعد وصول حركة طالبان إلى السلطة بعدد من الأهداف الرئيسية:

1- إدارة مطار كابل، وهو الملف الأهم بالنسبة لأنقرة في الوقت الراهن، باعتباره يؤكد على الحضور التركي في المشهد الأفغاني، وخصوصًا أن حركة طالبان تفتقر للإمكانيات والقدرات المطلوبة لإدارة المطار. وعلى الرغم من مطالبة حركة طالبان عبر متحدثها في الدوحة “سهيل شاهين”، في شهر يونيو الماضي، تركيا بسحب قواتها من أفغانستان بوصفها كانت جزءًا من قوات حلف شمال الأطلسي في الأعوام العشرين الماضية؛ إلا أن الفترة القليلة الماضية كشفت عن مؤشرات حول احتمال توصل حركة طالبان وأنقرة إلى تفاهم بينهما يضمن حصول الحركة على بعض الدعم التركي. ففي شهر أغسطس الماضي، صرح الرئيس التركي بأن أنقرة بدأت محادثات مع حركة طالبان، وأن بلاده لا تزال تدرس العرض المقدم لها من الحركة لتولي مهمة تشغيل المطار وتوفير متطلباته اللوجستية.

2- العلاقة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وهي محفز هام لحرص أنقرة على توسيع دورها في أفغانستان، حيث تحاول تركيا التأكيد على قيمتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن وحلف الناتو، وكذلك إصلاح العلاقات معهما بعد التوترات العديدة التي شهدتها في السنوات الأخيرة، نتيجة لعدد من الملفات ربما أهمها السياسات التركية في منطقة شرق المتوسط، وكذلك سعي تركيا للحصول على نظام الصواريخ الروسي S-400 وهو الأمر الذي قوبل بانتقادات عديدة من قبل الولايات المتحدة ودول الحلف لتخوفهم من أن تسمح تقنية نظام الصواريخ الروسية بالوصول إلى معلومات سرية من الناتو. وفي هكذا سياق، فإن الحضور التركي في أفغانستان يُنظر إليه كمحاولة تركية لكسب تأييد واشنطن، وتجاوز الخلافات بين البلدين، وتثبيت بعض الملفات كأمر واقع، وتخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على أنقرة، ومحاولة لتحسين العلاقات مع الرئيس الأمريكي الجديد “جو بايدن”.

3- احتياجات حركة طالبان، إذ تراهن تركيا على الأزمة التي تواجهها حركة طالبان في إدارة الدولة الأفغانية، فالحركة تتعرض للعديد من الضغوط الخارجية والداخلية. صحيح أن الموقف الدولي شهد درجة من الحلحلة تجاه الحركة، إلا أن هذا لا ينفي الحذر الدولي في التعامل مع الحركة والتلويح -بين حين وآخر- بفرض قيود على الحركة إذا لم تغير توجهاتها. كما أن الحركة تواجه مشكلات داخلية متعلقة برفض بعض القوى سيطرة طالبان على السلطة، ناهيك عن التهديد الذي يشكله تنظيم داعش. وعليه، ربما تحاول تركيا استغلال هذه المعضلات التي تقنع حركة طالبان بضرورة الحصول على المساعدة التركية من أجل تخفيف حالة العزلة الدولية والإقليمية التي قد تواجهها، وكذلك الحصول على المساعدة اللازمة لإدارة مطار كابل.

4- تعزيز المصالح الاقتصادية، فتركيا تستهدف من خلال دورها في الملف الأفغاني الحصول على عدد من المكاسب الاقتصادية، ولا سيما عبر ملف إعادة الإعمار، فوفقًا لوزارة الخارجية التركية، فإنه يوجد في أفغانستان نحو 76 شركة تركية يعمل معظمها (90% منها) في مجال البناء والمقاولات. كما أن التواجد في أفغانستان قد يسمح لتركيا بفتح سوق جديدة أمام البضائع التركية، وربما أيضًا استخدام أفغانستان كمحور لنقل البضائع والمنتجات التركية إلى دول آسيا الوسطى، وخصوصًا مع الأهمية الاستراتيجية لدول آسيا الوسطى بالنسبة لأنقرة، وهي الأهمية التي ترجع إلى ثراء هذه الدول بموارد الطاقة، حيث تملك دول آسيا الوسطى، وفقًا لبعض التقديرات، نحو 27% و34% من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي على الترتيب. ولذلك تبحث تركيا عبر البوابة الأفغانية عن موطئ قدم جديد في وسط آسيا.

5- مساومة الدول الأوروبية، ولعل هذا ما يتضح من طريقة تعاطي أنقرة مع قضية اللاجئين الأفغان وإعلانها رفض استقبال اللاجئين، ومطالبتها الدول الأوروبية بضرورة التدخل لمواجهة أزمة اللاجئين. إذ أكد الرئيس التركي أثناء اتصال هاتفي مع المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، يوم 21 أغسطس الماضي، أن “بلاده لا تستطيع تحمّل عبء هجرة إضافيّة من أفغانستان”. وأضاف، منتقدًا الاتحاد الأوروبي، إن “الموقف المتردد للاتحاد الأوروبي في شأن تلبية تطلعات تركيا المشروعة المتمثّلة بتحديث اتّفاق الهجرة المبرم في 18 مارس 2016، يؤثّر سلبًا على إمكان التعاون في مجال الهجرة”.

وتعكس تصريحات الرئيس التركي محاولة من أنقرة للضغط على الدول الأوروبية، وربما تهديد هذه الدول بموجة جديدة من اللاجئين الأفغان في حال لم يُقدّموا المزيد من التمويل لأنقرة لمواجهة تداعيات قضية اللاجئين، وكذلك الضغط على هذه الدول لتخفيف انتقادها للنظام التركي.

تحديات محتملة

بقدر ما يمثل الملف الأفغاني أهمية بالنسبة لتركيا، فإنه يحمل أيضًا تحديات ومخاطر محتملة بالنسبة لأنقرة، وهي المخاطر المرتبطة بعدد من الأبعاد الرئيسية. فمن جهة أولى، تواجه السياسة التركية في اللحظة الراهنة خطر التوسع المفرط overextension risk، وهو الخطر الناتج عن انخراط تركيا بعمق، عسكريًا ودبلوماسيًا، في العديد من الدول في وقت واحد مثل ليبيا وسوريا والعراق بصورة مباشرة، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل أذربيجان وأوكرانيا والقوقاز عبر تعاون أمني أوسع، وعدد من الدول الإفريقية عبر مشروع إنمائي كبير. ولا يمكن إغفال أن التدخل في أفغانستان في الوقت الراهن سيخلق المزيد من التعقيدات أمام السياسة التركية، ويحتمل أن يصيبها بانتكاسة كبيرة قد تنعكس على الحضور التركي في المناطق الأخرى.

ومن جهة ثانية، يواجه النظام التركي انتقادات داخلية حادة في ضوء توجهاته تجاه القضية الأفغانية، إذ ترفض عدد من قوى المعارضة الرغبة الحكومية في إبقاء القوات التركية في أفغانستان، وتعتبره دفعًا للجنود الأتراك في مواجهة غير محسومة ومحفوفة بالمخاطر مع حركة طالبان. وقد ربط قادة بعض الأحزاب، مثل “كمال كليجدار أوغلو”، زعيم حزب الشعب الجمهوري، و”ميرال أكشنر”، رئيسة حزب الخير التركي، بين بقاء القوات التركية في أفغانستان وبين الدعم المالي واللوجستي الذي تشترطه أنقرة، رافضين مقايضة الجنود الأتراك بالمال أو العمل كمرتزقة أو التضحية بهم لحماية الجنود الأمريكيين، على حد وصفهم.

ومن جهة ثالثة، يحتمل أن تواجه تركيا تكلفة بشرية جراء تواجدها داخل أفغانستان، فالأوضاع لم تستقر حتى الوقت الراهن بالنسبة لحركة طالبان، ولا يزال سيناريو الحرب الأهلية قائمًا، كما أن الهجوم الذي نفذه تنظيم داعش على مطار كابل يوم 26 أغسطس الماضي، وخلف أعدادًا هائلة من القتلى، كشف عن معضلة أمنية كبيرة. وعليه، لن يكون من مصلحة النظام التركي تعرض قواته وعناصره في أفغانستان لهجمات مماثلة، لأن حدوث ذلك الأمر سيفاقم من الضغوط الداخلية على النظام، ويؤثر على حظوظه في الانتخابات القادمة.

ومن جهة رابعة، يتعرض الدور التركي في أفغانستان لرفض من قبل عددٍ من القوى الإقليمية، مثل روسيا والصين وإيران، حيث ترى هذه القوى أن تصاعد الدور التركي في أفغانستان سيكون له تأثير سلبي على مصالحها، وخصوصًا أن أنقرة قد تستخدم أفغانستان كورقة للضغط على هذه الدول في قضايا أخرى إقليمية وداخلية، على غرار الأقلية السنية في إيران، وأقلية الإيجور المسلمة في الصين.

وتأسيسًا على ما سبق، يُناقش هذا الملف، الذي يضم تحليلات وتقديرات مركز العالم العربي وفريق موقع الحائط العربي، محاولات تركيا لتمديد نفوذها داخل أفغانستان ومحفزات السياسة التركية تجاه حركة طالبان بعد سيطرتها على السلطة.