تُصعِّد المليشيا الحوثية في المرحلة الحالية عسكرياً بوتيرة متدرجة على مختلف الجبهات في الداخل، وأصبح من الممكن فهم حسابات التصعيد المختلفة على كلٍ من تلك الجبهات. لكنّ التحول النوعي في مسار التصعيد يظهر في استهداف المنشآت النفطية وحركة السفن وموانئ الشحن، مما دفع العديد من الشركات لوقف الإنتاج بعد وصول التخزين إلى أعلى مستوى، حيث تطالب المليشيا بالحصول على حصة من عوائد النفط كشرط للتوقف عن تلك الهجمات. وفي المقابل، فإن رد الحكومة الشرعية والسلطات المحلية دفاعي لإحباط تلك الهجمات قدر الامكان، إضافة لتصنيفها المليشيا كتنظيم إرهابي، لقطع الطريق على مساعي الأخيرة للتفاوض بشأن ملف النفط.
اتجاهات مختلفة
لم تتوقف المليشيا الحوثية عن الانتهاكات المسلحة خلال نصف عام من الهدنة تقريباً، ما بين شهري أبريل وسبتمبر ٢٠٢٢، لكن وتيرة التصعيد أصبحت أكثر كثافة منذ مطلع أكتوبر الفائت، حيث بدأتها بالهجمات باستخدام المسيرات المفخخة والقذائف، ثم اتّجهت، خلال نوفمبر الجاري، لاستخدام الصواريخ بشكل أكثر كثافة، جنباً إلى جنب مع المسيرات في الجبهات المتعددة.
فشرقاً ومن الشمال، أخذت في استهداف محافظة الجوف، بعد انتفاضة القبائل التي بدأتها قبيلة همدان على إثر مصادرة المليشيا للأراضي التابعة للقبائل، مما دفع العديد من القبائل الأخرى إلى إعلان “النكف القبلي” (عرف تقليدي يستجدي نخوة رجال القبائل بنصرة أي قضية) للتصدي للمليشيا. وفي مأرب، بدأت في التصعيد ضد قوات الجيش الوطني، حيث استهدفت مقر الفرقة الثالثة بالصواريخ.
وباتجاه الجنوب مع محافظة شبوة النفطية، قامت بإطلاق العديد من الصواريخ أيضاً بعد الفشل المتكرر قبل أشهر الهدنة في اختراق تلك الجبهة إثر تصدي قوات العمالقة الجنوبية لها، بينما تُصعِّد من أبين وباتجاه لحج لقطع أوصال الطرق ما بين المحافظات، ولا سيما من تعز التي تفرض حصاراً عليها باتجاه عدن.
وفي اتجاه موازٍ ومتزامن، شنّت المليشيا الحوثية هجوماً بطائرة مسيرة مفخخة على ميناء قنا في شبوة مما تسبب في ثلاثة انفجارات، وأسفرت شظايا اعتراض المسيرة عن إصابة عمال أجانب على متن واحدة من سفن الشحن.
دلالات رئيسية
تعكس هذه الاستدارة الحوثية نحو الداخل دلالات رئيسية عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الحفاظ على مخرجات الهدنة: من الأهمية الأخذ في الاعتبار أن المليشيا الحوثية لم يعد بمقدورها من الناحية الاستراتيجية العودة إلى استهداف المنشآت النفطية الخليجية، ولا سيما السعودية، على نحو ما كانت تفعل في السابق. فهي تريد الحفاظ على ما تبقى من مخرجات الهدنة، ولديها وعد بزيادتها من الوسطاء الدوليين في حال عادت إلى الهدنة. وبالتالي، لا تريد خسارة هذه المكاسب، لكنها -في الوقت نفسه- تقوم باستدارة عبر استهداف مصالح الأطراف الإقليمية والدولية في الداخل، في ظل أزمة الطاقة العالمية، ومن ثم، فإنها ترى أن هذه الاستدارة تحقق الهدفين معاً: الضغط على الحكومة، والشركاء الإقليميين والدوليين.
2- تقليص ضغوط القوى الدولية: تحاول المليشيا عبر الزعم بأن القضية محلية وشأن داخلي تقليص قيود وضغوط القوى الدولية لإدراجها كتنظيم إرهابي. ومن هنا، تَشكل الدافع لدى الحكومة الشرعية بتصنيفها كتنظيم إرهابي، وهو ما يُفهم منه أن الحكومة تقطع الطريق أيضاً على استئناف المفاوضات مع المليشيا، أو التمسك بالاتفاقيات السابقة كاتفاق استكهولم، وفق ما أشار إليه العديد من القيادات والساسة المحسوبين على الحكومة.
3- المشاركة في عوائد النفط: اللافت في هذا السياق أن تلك الاستدارة نحو الداخل واكبتها استدارة أخرى، فبعد أن كانت المليشيا تُطالب بالمشاركة في عوائد النفط بدعوى تمويل رواتب موظفي القطاع المدني، وعناصر المليشيا؛ اتّجهت إلى بلورة الأمر بصيغة أخرى، حيث طالب القيادي حسين العزي نائب وزير خارجية حكومة المليشيا، بالحصول على حصة نفطية، وفقاً لمخصصات المحافظات من الموازنة العامة للدولة عام ٢٠١٤. وبالطبع فإن مخصصات صنعاء هى الأكبر بطبيعة الحال على مستوى المحافظات بحكم كونها العاصمة، وهو ما يُعتبر الهدف الرئيسي من طرح هذه الصيغة التي قد تتجاوز في حجم تمويلها مخصصات الرواتب.
4- الحصول على مكاسب ثانوية: ترمي المليشيا إلى الحصول على مكاسب ثانوية، منها -على سبيل المثال- تأكيد سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فهي لم تطالب بضم موازنات المحافظات الأخرى التي تسيطر عليها للحفاظ على هذه الرمزية. وكهدف أو كرسالة ذات مغزى سياسي، تزامنت الهجمة الأخيرة على ميناء قنا مع الزيارة التي قام بها السفير الأمريكي لدى اليمن ستيفن فاجن إلى محافظة حضرموت، والتي تطرقت إلى التعاون المشترك في مجال التنمية، وهو ما تعارضه المليشيا الحوثية التي تتبنى رفض أي دور أو علاقات أمريكية مع اليمن لحسابات تتعلق بالجانب الإيراني على غرار ما يجري في العراق من جانب وكلاء إيران هناك، فالمليشيا تقوم بدورها كوكيل في اليمن للاضطلاع بالمهمة ذاتها.
تحركات مضادة
تقاوم الحكومة الشرعية كافة التحركات الحوثية، وترفض تغيير استحقاقات الهدنة على النحو الذي كانت قائمة عليه من قبل، بل وتشترط الالتزام بكافة مقرراتها، والتي تتطلب فك الحصار عن تعز، إلى جانب وقف التصعيد الحوثي على مناطق سيطرة الشرعية. وكرد فعل على الهجمات الحوثية على المنشآت النفطية، قامت بتصنيفها كمنظمة إرهابية.
لكن لهجة التشدد تلك توازت مع لهجة دبلوماسية أخرى تخفف من حدتها، فالتقارير الإعلامية الرسمية الصادرة هذا الأسبوع عقب لقاء رئيس مجلس الرئاسة رشاد العليمي بسفراء الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، وسفراء الاتحاد الأوروبي المعتمدين لدى اليمن، أكدت أن المجلس يرى في الموقف الحوثي مساعي لنسف محاولات السلام، في حين أن المليشيا لا تتبنى بالأساس أي محاولات من هذا النوع، كما أن الاحتفاظ بحق الرد على الهجمات الحوثية دال أيضاً على عدم الرغبة في التصعيد المضاد، حيث لا تحتاج الحكومة الشرعية إلى استشارة الأطراف للدفاع عن النفس والمصالح وتأمين البنية التحتية.
وبالتالي، تُظهِر هذه السياسة من جانب الحكومة المعترف بها دولياً مدى محدودية أدواتها في المقاومة في مواجهة المليشيا، وهو ما يُعتقد معه أن المليشيا تعتبر نفسها الطرف الأقوى في المعادلة، وأن حسابات القوة هي المعيار الذي يحقق القدرة على الإرغام في مواجهة الطرف الآخر. وبالتالي، فإن المليشيا ستزيد، على الأرجح، من عملية التصعيد في المرحلة المقبلة. وربما ستقبل الأطراف الدولية بتقديم تنازلات وفق الصيغة الحوثية الأخيرة (موازنة صنعاء) أو صيغ أخرى سيدفع بها لمناقشات في الظل مع الأطراف الدولية والبعثة الأممية، وهو ما يمكن توقعه حال قبول المليشيا استقبال المبعوث الأممي هانز غروندبيرج في صنعاء، أو عقد لقاء جديد مع الوفد الحوثي المفاوض في سلطنة عمان. لكن على الجانب الآخر، تتنامى وسائل مكافحة دعم القدرات الحوثية وعمليات التمويل في إطار التعاون المشترك ما بين القيادة الأمريكية في الخليج والحكومة اليمنية، ففي هذا الأسبوع فقط تمت مصادرة شحنة وقود صواريخ إيرانية كانت في طريقها إلى المليشيا، وهو مؤشر مهم في هذا الصدد. كما تمت مصادرة سفينة مخدرات إيرانية كانت راسية قبالة سواحل سقطرى اليمنية وهي مصدر آخر للتمويل الحوثي، لكن لا تزال هناك حاجة لتعزيز الدفاعات الخاصة بالقوات المشتركة في السواحل الجنوبية وبحر العرب، وزيادة العناصر، ورفع الكفاءة، بهدف التصدي لعمليات الإمداد الإيرانية للمليشيا.