دوافع متعددة:
أبعاد إعادة انتشار المليشيات الإيرانية على الحدود السورية-العراقية

دوافع متعددة:

أبعاد إعادة انتشار المليشيات الإيرانية على الحدود السورية-العراقية



يأخذ التباين الإيراني الروسي شكلاً جديداً مختلفاً عن الصورة النمطية لتقاطع المصالح بين الطرفين، حيث تهدف تحركات تجريها روسيا حالياً في شمال شرقي سوريا، إلى إعادة ترتيب الأوضاع في تلك المنطقة وتطويق التصعيد العسكري بها، وقيامها بالوساطة لإجراء عملية تسوية واسعة هناك منتصف شهر نوفمبر الجاري، على غرار التسوية التي جرت في محافظة درعا، تضمن دخول الجيش السوري إلى بعض مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ولكن ليس مضموناً من قبل إيران ما يمكن أن تأتي به نتائجها فيما يخص أهدافها بتلك المنطقة، خاصة مع توجه روسيا إلى تقليص نفوذ مليشياتها هناك، لذا قامت المليشيات الإيرانية بإعادة انتشار ضمن بلدات وقرى ممتدة من الميادين إلى البوكمال.

مخاوف إيرانية

أصبحت روسيا هي اللاعب الأبرز على الساحة السورية، وهو ما بدا في توجه أغلب القوى الإقليمية المنخرطة في الأزمة إليها، وتدرك موسكو أن واشنطن قد تتجه في النهاية للانسحاب من قاعدة التنف، لذا ترغب في التحسب لمثل هذا السيناريو من خلال التأكيد على قدرتها في الانتشار واستطاعتها تعويض ذلك الانسحاب، عبر تقديم الدعم للأكراد في مواجهة التهديدات التركية، وتمثيلها كقناة تواصل بين الأولى ودمشق، ولعل ما يفسر ذلك الحديث عن قيامها بتنسيقات مع تركيا فيما يخص هجماتها ضد تلك المواقع، ويأتي أيضاً بعد الإعلان عن تفاهمات روسية – إسرائيلية، بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بنيت” إلى روسيا مؤخراً، الأمر الذي أثار الاستياء الإيراني وتخوفها من شن هجمات على مليشياتها هناك، وشعورها بالرغبة الروسية في الحدّ من انتشارها بتلك المناطق. ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:

1- مساعٍ روسية للحدّ من الانتشار الإيراني: تستهدف روسيا الحد من الانتشار الإيراني في شمال شرقي سوريا، حيث كشفت تقارير عن وجود “قرار روسي بمنع نقل عناصر مليشيا الحرس الثوري إلى داخل مناطق سيطرة “قسد” عن طريق مطار القامشلي. وأن هذا القرار تم بالتنسيق مع جيش النظام السوري، باعتبار أن الوجود الإيراني بتلك المنطقة لا مبرر له، كونها ليست منطقة اشتباكات، حيث يوجد نحو 150 عنصراً من المليشيات التابعة لإيران في مناطق قريبة من مطار القامشلي”، على نحو يعكس رغبة موسكو في تقليص نفوذ إيران، أو تقويض قدرتها على الوصول لشرق الفرات عسكرياً وسياسياً.

2- ملء الفراغ الأمريكي: تلعب روسيا حالياً دور الوساطة بين الأكراد وتركيا من جانب، وبين الأكراد ودمشق من جانب آخر، وقد تم الكشف عن نقاط تطرحها حالياً في حواراتها مع كافة الأطراف، من بينها احتمال انسحاب القوات الكردية من مناطق محددة، في مسعى لتخفيف المخاوف الأمنية لتركيا، على أن تقوم الشرطة العسكرية الروسية بتأمين تثبيت وقف إطلاق النار في هذه المناطق، وقد شهدت الفترة الأخيرة زيادة في حجم الانتشار الروسي شرق الفرات بالقرب من القوات الأمريكية، سواء لجهة نشر طائرات حربية في القامشلي والرقة، أو توسيع نشر الدوريات والمراكز الروسية، بهدف ردع تركيا عن توغل جديد يضرب بقوات سوريا الديمقراطية، أملاً منها في أن تشجع تلك الخطوات الولايات المتحدة على تقبل وجود ودور القوات الروسية كبديل عن قواتها مستقبلاً.

3- التخوف الإيراني من الاتفاقيات الروسية – الإسرائيلية: يحفز التمدد الإيراني في سوريا بالقرب من الحدود مع إسرائيل مخاوف الأخيرة، لذا تسعى لضبط هذه التحركات، عبر روسيا، سواء من خلال التوصل لتفاهمات معها، تمكنها من توجيه ضربات في سوريا ضد الوجود الإيراني بحرية أكبر، كما كان الوضع عليه في السابق، أو لتحجيم التحركات الإيرانية في سوريا. وقد أسفر الإعلان الإسرائيلي عن تفاهمات روسية – إسرائيلية، بعد زيارة رئيس الوزراء “نفتالي بنيت” إلى روسيا مؤخراً (22 أكتوبر 2021) عن تصاعد الاستياء الإيراني، وكانت تل أبيب قد أعلنت أن التفاهم بين “بنيت” و”بوتين” ركز على إعادة تفعيل اتفاقات سابقة تمنح إسرائيل مجالات واسعة لشن هجمات على مواقع في سوريا ترى فيها تهديداً على أمنها. وشنت تل أبيب بالفعل عدداً من الهجمات على مواقع قرب دمشق في الأيام التي تلت هذه الزيارة، وكان آخرها تلك التي جرت يوم 9 نوفمبر 2021، حينما قصفت طائرات إسرائيلية مواقع تابعة لإيران في وسط سوريا وغربها.

4- المصلحة المشتركة بين موسكو وواشنطن: أتى التوغل الروسي في محافظة دير الزور بعد أيام قليلة من الهجوم الذي تعرضت له قاعدة التنف الأمريكية في شهر أكتوبر الفائت، مما أشار إلى وجود رضا أمريكي عن تسيير دوريات روسية في دير الزور، بهدف مراقبة نشاط المليشيات الإيرانية في المنطقة.

مأزق المليشيات

دفعت كافة المعطيات المطروحة سابقاً المليشيات التابعة لإيران، لأن تجري الفترة الحالية عمليات إعادة انتشار ضمن بلدات وقرى ممتدة من الميادين إلى البوكمال عند الحدود السورية – العراقية بريف دير الزور الشرقي، وذلك تخوفاً من الاستهدافات المتكررة التي تتعرض لها تلك المليشيات من قبل الجانب الإسرائيلي بالدرجة الأولى، والقوات الأمريكية بدرجة أقل، في إطار التصعيد غير المعلن بينهما ضد الإيرانيين شرق البلاد. فقد تكررت عمليات استهداف المليشيات الإيرانية خلال الشهور الماضية، فعلى سبيل المثال، تم الإعلان، يوم 10 نوفمبر الجاري، عن قتل عناصر من مليشيات تابعة لطهران في قصف من طائرات مجهولة الهوية على البوكمال شمال شرق سوريا، بعد أيام على اتهامات مسؤولين أمريكيين لفصائل إيرانية بقصف قاعدة التنف الأمريكية في الزاوية السورية – العراقية – الأردنية، وتلويح الرئيس “جو بايدن” بالرد.

وتأتي أهمية تلك المنطقة لإيران من أجل تحصين مشروعها بالتمدد إلى دول الجوار العربي، لذا اتخذت خطوات في نشر المذهب الشيعي بها، وخلال فترة وجودها هناك نجحت مليشياتها بأنواعها المختلفة، أجنبية وسورية ومحلية، في تطويع الآلاف من الشبان المحليين في صفوفها، مما حقق للحرس الثوري اتصالاً مهماً بالمجتمعات المحلية. كما عملت على التقرب من السكان واكتساب الشرعية منهم، عبر أنشطتها وأعمالها المدنية الخيرية الإنسانية، التي اعتمدت فيها بشكل رئيسي على المركز الثقافي الإيراني، ومنظمة جهاد البناء، لكنها واجهت عوائق كبرى وجذرية وقفت في طريقها، وأهمها التباين المذهبي مع أكثرية سنية، وتمركز القوات الأمريكية الرافضة لوجودها بالمنطقة.

وتتمثل عمليات إعادة الانتشار التي تتم الآن بتبديل مواقع ونقاط وقوات، وبالإضافة إلى ذلك تقوم المليشيات باستقدام تعزيزات عسكرية بشكل يومي إلى مواقعها ونقاطها، وتحصين تلك المواقع والنقاط بشكل أكبر. وفي هذا السياق، عمدت المليشيات الإيرانية إلى نقل شحنات أسلحة من داخل قلعة الرحبي، ومن مخزن للسلاح بالقرب من آثار الشلبي شرقي دير الزور، إلى نقاطها ومواقعها ومقراتها التي أعادت الانتشار فيها، ضمن المناطق آنفة الذكر.

وفي هذا الإطار، أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان، إلى أن المليشيات التابعة لإيران المسيطرة على مدينة البوكمال غرب الفرات بريف دير الزور الشرقي، عمدت إلى نصب مدفع “57” في محطة المياه الواقعة على “الكورنيش” بجانب الجسر الكبير، الذي يربط بين البوكمال غرب الفرات، والباغوز الخاضعة لنفوذ قوات سوريا الديمقراطية، والمعقل الأخير سابقاً لتنظيم “داعش” شرق الفرات.

وفي النهاية، يمكن القول بوجود تنافس غير معلن بين موسكو وإيران داخل سوريا، يتمثل في سعي كل منهما لتأكيد دوره في تقرير مصير الأخيرة، بعد أن كان بينهما تحالف له الكثير من الأهداف المشتركة؛ حيث اعتمدت موسكو بشكل كبير على الأنشطة الإيرانية في دير الزور للحفاظ على نفوذها هناك، وفي المقابل استفادت إيران استراتيجياً ومالياً من الدعم العسكري الأساسي لبشار الأسد، ولكن الآن يأتي الحديث عن محاولة روسيا الحد من الانتشار الإيراني في شمال شرقي سوريا، وهو ما يرتبط في المقام الأول بسعي موسكو لتعويض انسحاب واشنطن من المنطقة حال حدوث ذلك، والتي تربط انسحابها بانسحاب القوات الإيرانية.