يقوم التطور السياسي في السودان منذ الاستقلال في عام 1956 على سلسلة متواصلة من التعاقب بين الحكم المدني والعسكري تعكس الكثير من مظاهر التناقض بين النمطين. ومنذ سقوط نظام “البشير” في أبريل من عام 2019، شهدت التجربة السودانية تحولًا نوعيًا تَمثّل في تأسيس نمط هجين من الحكم الانتقالي يقوم على الشراكة بين المدنيين والعسكريين، سواء على مستوى عضوية مؤسسات الحكم، أو على مستوى المسؤولية عن أداء الوظائف المتعددة في الداخل والخارج.
سمات رئيسية
نظرًا لما تشكله التجربة السودانية القائمة من نموذج فريد مقارنة بالخبرة السياسية في مراحل سابقة، ومقارنة بتجارب الانتقال السياسي في العديد من دول جوار السودان العربي والإفريقي، تظهر الكثير من التساؤلات بشأن قدرة هذا النموذج على الاستدامة طوال الفترة المتوافق عليها لبقائه من ناحية، وقدرته على إتمام كافة مهام الانتقال لنظام سياسي مستقر من ناحية أخرى. واللافت في الحالة السودانية أن السمات المميزة للشراكة بين المدنيين والعسكريين في الحكم خلال المرحلة الانتقالية تحمل تداعيات ذات طبيعة مزدوجة، بحيث تعزز من فرص النجاح وتطرح تحديات كبرى في الوقت نفسه. وتتمثل هذه السمات في الآتي:
1- الظرفية: شكّلت الاحتجاجات التي تفجرت في السادس من أبريل عام 2019 أهم مظاهر التصعيد من جانب قوى الحرية والتغيير ضد نظام “البشير”، والتي مهدت لتدخل القوات المسلحة للإطاحة به في الحادي عشر من الشهر ذاته. وعلى الرغم من تكامل الجهود بين الجانبين؛ إلا أن مؤشرات محدودة عكست التنسيق بين قوى الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية السودانية على نحو ما ظهر في الخلاف المبكر الذي أثاره صدور بيان وزير الدفاع آنذاك “أحمد عوض بن عوف”، والذي رفضت القوى السياسية توليه المسؤولية خلفًا للبشير مما أدى إلى استقالته بعد يوم واحد. وقد بلغت العلاقة بين الجانبين مستويات متقدمة من التوتر خلال شهور حكم المجلس العسكري الانتقالي التي تخللتها أحداث فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019، وذلك لحين توقيع اتفاق تقاسم السلطة بين المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير في أغسطس من عام 2019.
وتكشف هذه التفاعلات المبكرة عن الطبيعة الظرفية للشراكة بين المدنيين والعسكريين في المرحلة الانتقالية السودانية، حيث لم يأتِ اشتراك الجانبين في تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي نتيجة ترتيبات مسبقة أو تفاهمات سلسة في الأيام الأولى لسقوط “البشير”؛ وإنما ساهمت جملة من العوامل الداخلية والخارجية في دفع الجانبين لقبول منطق تقاسم السلطة على الرغم من وجود تحفظات متعددة لدى كل طرف.
هذا الواقع الظرفي لنشأة الشراكة بين العسكريين والمدنيين في الحكم الانتقالي في السودان أسس لسيادة منطق براجماتي واقعي لدى الجانبين ساعد على تجاوز العديد من المحطات الصعبة كتشكيل حكومتي “عبدالله حمدوك” الأولى والثانية، وإطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي، فضلًا عن اشتراك الجانبين في مسارات السلام المتوازية مع الفصائل المسلحة والتي تبنت فيها الأطراف المختلفة مواقف غلب عليها المرونة والعملية. لكن في المقابل، يحول هذا الطابع الظرفي للشراكة دون تقدمها في مسار التطور والمأسسة والاستدامة.
2- السيولة البنيوية: يحمل الحديث في الحالة السودانية عن مكونين أحدهما مدني والآخر عسكري طابعًا اختزاليًا يتجاوز الواقع القائم. حيث تشهد بنية المؤسسة العسكرية السودانية تعددية واضحة في ظل السياسة التي تبناها الرئيس السابق “عمر البشير”، والتي قامت على دمج العديد من الكيانات شبه العسكرية في بنية المؤسسة العسكرية من دون تحديد دقيق لتسلسل القيادة أو لعلاقة هذه الكيانات بالقوات المسلحة السودانية.
وقد أفرز هذا الوضع الحالة الخاصة لقوات الدعم السريع التي تتمتع بحجم كبير ومستوى متقدم من التأهيل، فضلًا عن انتشارها في مختلف مناطق السودان، الأمر الذي انعكس سياسيًا في صورة “تقاسم داخلي” لحصة المؤسسة العسكرية من المناصب في هيئات الحكم الانتقالي بين القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، الذي تقلد منصب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وبين قائد قوات الدعم السريع الفريق أول “محمد حمدان دقلو” (حميدتي) الذي تم اختياره نائبًا لرئيس مجلس السيادة.
وعلى الجانب الآخر، قدمت قوى الحرية والتغيير نفسها باعتبارها المظلة الواسعة الممثلة للغالبية العظمى للتيارات السياسية السودانية نظرًا لانتظام العديد من الأطراف في عضويتها، بما في ذلك الأحزاب التقليدية وأحزاب اليسار المتنوعة والتنظيمات المدنية غير الحزبية. لكن في حقيقة الأمر عجزت هذه المظلة عن تأدية أي دور فاعل بكفاءة منذ سقوط “البشير” بعدما عادت مظاهر التنافس المتعددة لتفرض مساحات كبيرة من التوتر بين القوى السياسية المختلفة لدرجة تحول بعض هذه الأحزاب كالحزب الشيوعي لمنابر رئيسية لمعارضة قرارات حكومة “عبدالله حمدوك”، التي يفترض أنها تمثل بالأساس قوى الحرية والتغيير.
وبجانب التفكك الداخلي لدى المعسكرين المدني والعسكري، يظهر صعود اللاعب الثالث ذي الأهمية المتصاعدة ليفرض المزيد من السيولة على المشهد السوداني. حيث أسفر اتفاق جوبا للسلام الموقع في أكتوبر من عام 2020 عن دمج غالبية الفصائل والحركات المسلحة في بنية الحكم الانتقالي في السودان من خلال عضوية مجلس السيادة ومجلس الوزراء، فضلًا عن احتفاظ الفصائل بحصة مؤثرة في المجلس التشريعي الانتقالي قيد التشكل. وتتمثل الأهمية الكبرى لانفتاح ترتيبات الحكم الانتقالي في السودان على الفصائل المسلحة في الطبيعة المزدوجة لهذه الفصائل والتي يتضمن كل منها جناحًا سياسيًا وآخر عسكريًا بحكم النشأة وطبيعة النشاط.
ربما تكون هذه السيولة البنيوية ساهمت في التخفيف من حدة الاستقطاب الثنائي بين العسكريين والمدنيين في العديد من المواقف، عبر إبراز التنوع الكبير في الرؤى، والمساعدة على خلق توافقات عابرة للانقسام الأولي بين الجانبين. لكن في الوقت نفسه، نالت هذه السيولة من تماسك بنية الحكم الانتقالي بعد أن تكررت المحاولات الانقلابية من جانب العسكريين، وبعد أن تكررت مظاهر الانقسام بين قوى الحرية والتغيير وداخل بعض مكوناتها كالانشقاق الذي شهده تجمع المهنيين السودانيين.
3- تداخل الاختصاص: أسس اتفاق تقاسم السلطة لاشتراك المدنيين والعسكريين في السودان في تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي الثلاث: مجلس السيادة الانتقالي، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي الذي لم يتم تشكيله بعد. وقد أدى هذا التقاطع بين الجانبين في عضوية مؤسسات الحكم الانتقالي لظهور العديد من مظاهر التداخل على المستوى الوظيفي وفق ما أقرته الوثيقة الدستورية. فعلى سبيل المثال، يرأس الفريق أول “محمد حمدان دقلو” اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، بينما حضر رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” بقوة في مفاوضات السلام مع الفصائل المسلحة.
وسمح هذا التداخل بظهور نمط للتكامل أو “توزيع الأدوار” في العديد من القضايا، وخاصة في إدارة بعض القضايا الخارجية، مثل: التوترات الحدودية مع إثيوبيا، أو مفاوضات سد النهضة المتعثرة، وكذلك بعض الأزمات الداخلية مثل أعمال العنف في غرب دارفور. لكن في المقابل، أنشأ هذا التداخل، في بعض المناسبات، حالة من التنافس وتنازع الاختصاص بين الجانبين المدني والعسكري، وصلت إلى مستوى تبادل الاتهامات العلنية بين رئيس الحكومة ورئيس مجلس السيادة بشأن قضية النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة.
4- الاحتكام للفاعل الخارجي: بعد عقود من العزلة الدولية التي فُرضت على السودان نتيجة لسياسات نظام “البشير” التي قامت على تأجيج الصراعات في الداخل والخارج، رأت العديد من القوى الدولية في التغيير السياسي في السودان فرصة كبيرة للعودة من جديد للنشاط في الساحة السودانية في ظل ما يتمتع به السودان من أهمية كبيرة كفاعل رئيسي في دوائر البحر الأحمر وشرق إفريقيا وحوض النيل.
على هذا الأساس، انخرطت العديد من الأطراف في مساعدة الفرقاء السودانيين على تجاوز الخلافات الأساسية وصولًا للتوافق في أغسطس من عام 2019، والذي عكس العديد من المؤشرات المهمة في مقدمتها عودة الولايات المتحدة لتبني سياسة نشطة تجاه السودان بعد أن لعب المبعوث الأمريكي للسودان “دونالد بوث” دورًا مهمًا في إتمام التوافق.
وقد تكررت مظاهر استجابة الأطراف المدنية والعسكرية السودانية للمطالب الدولية عمومًا، والأمريكية على وجه الخصوص، بما في ذلك تلك المتعلقة بترتيبات الحكم خلال المرحلة الانتقالية. فعلى سبيل المثال، قبل العسكريون في السودان المقترح الأمريكي بإسناد القيادة في المرحلة الانتقالية لطرف مدني ممثل في رئيس الحكومة بعدما أصبح مجلس الوزراء هو مركز ثقل النظام الانتقالي وفق ترتيبات تتشابه بشدة مع تلك المعمول بها في النظم البرلمانية. وفي المقابل، قبلت الحكومة السودانية الدعم الأمريكي الكبير لرئيس مجلس السيادة في قيادة مساعي التقارب بين السودان وإسرائيل.
ويشير هذا الوضع إلى فرصة كبيرة لاستدامة الشراكة بين المدنيين والعسكريين في السودان في ظل ما تحظى به من قبول دولي قد يساعد على تسوية الخلافات بين الجانبين حال تصاعدها مستقبلًا. لكن في الوقت نفسه، يفتح هذا الوضع الباب واسعًا أمام ارتهان التوازنات الداخلية بين شركاء الحكم في السودان بتوجهات القوى الخارجية الكبرى والتي قد تشهد تغيرات جوهرية في المستقبل استجابة لمتغيرات داخلية أو إقليمية متعددة.
محدِّدات المستقبل
تأسيسًا على كل ما سبق، تُقدم كل سمة من السمات المميزة للشراكة بين المدنيين والعسكريين في السودان العديد من الفرص والقيود في الوقت نفسه، الأمر الذي يجعل من محاولة استشراف مستقبل هذه الشراكة أمرًا ينطوي على قدر من الصعوبة. لكن تظهر ثلاثة محددات رئيسية تحدد بدرجة كبيرة ملامح العلاقة بين شركاء الحكم في السودان، أولها توافق هؤلاء الشركاء بشأن استكمال مهام المرحلة الانتقالية وفي مقدمتها تشكيل المجلس التشريعي، بجانب تسليم رئاسة مجلس السيادة من العسكريين للمدنيين.
أما المحدد الثاني فيتعلق بقدرة شركاء الحكم الانتقالي على تجاوز الأزمة الاقتصادية المعيشية العميقة التي تعاني منها قطاعات واسعة من السودانيين، والتي يمكن أن تعصف حال تفاقمها بكل الترتيبات الهشة القائمة من دون أن تفرق بين طرف مدني وآخر عسكري.
وعلى المدى الزمني الأبعد يظهر المحدد الثالث المتعلق بمدى التزام شركاء الحكم بالشروع في الإجراءات التمهيدية اللازمة لتسليم الحكم لهيئة منتخبة دائمة تنهي المرحلة الانتقالية بنجاح.