المصالح الناقصة:
لماذا تتعثر “التحالفات الصلبة” في الشرق الأوسط؟

المصالح الناقصة:

لماذا تتعثر “التحالفات الصلبة” في الشرق الأوسط؟



صارت إدارة العلاقة مع الحلفاء توازي -إن لم تكن تتجاوز- أهمية إدارة المواجهة مع الخصوم في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، وهو ما عرض تلك التحالفات لتكون أقل استقرارًا أو تماسكًا على نحو يمثل إعاقة لها في اتجاه المصلحة الرئيسية أو مجموعة المصالح الفرعية التي تبغي كل دولة تحقيقها من الانخراط في تحالف أو محور، سواء كان ثنائيًا أو متعدد الأطراف، يسعى إلى بلورة فرصة أو درء تهديد. وفي هذا السياق، تصاعد اتجاه رئيسي في الأدبيات الغربية والعربية يطلق على هذه النوعية من التحالفات تسميات مختلفة مثل “التحالفات المرنة أو الجزئية”، و”تحالفات القضية الواحدة”، و”الأحلاف الناعمة”، و”الائتلافات المؤقتة”، و”الشراكات الهجينة”، وهو ما يؤثر تباعًا على دورة حياة التحالف Alliance Life Cycle، المرتبطة بمرحلة المد والجزر في تطور التحالفات، وبالتبعية يؤدي إلى إنتاج تساؤل رئيسي حول أسباب تعثر دورة التحالفات الصلبة بالمنطقة.

تفسيرات متعددة

على الرغم من أن هذه النوعية من التحالفات “السائلة” ليست ظاهرة حديثة النشأة بل تشكلت منذ ما يقرب من عقد من الزمن، لكن ملامحها بدأت أكثر رؤية وتأثيراتها بدت متسعة في المرحلة الحالية، ولا سيما مع تعدد مصادر التهديد وزيادة الخصوم. وتجدر الإشارة إلى أنه من المهام الأساسية الموكلة للتحالف بين مجموعة من الدول في إقليم بعينه هي ردع العدوان والتصدي له ودحره من دون القيام بشن عمليات عسكرية. هذه المهمة -حسب تعبير الباحث الشهير “باسكال بونيفاس”- تُعتبر من الدوافع التقليدية العلنية وراء انخراط الدول في التحالفات مع غيرها من الدول، فالخوف من التعرض لأي شكل من أشكال التهديد هو الذي يدفع الدول نحو التحالف، خاصة إذا كان يواجهها عدو مشترك. هذا الطرح يتماشى والقاعدة المتداولة في العلاقات الدولية، التي تتمثل في أنه “لا يوجد عدو، لا يوجد تحالف“.

ويمكن القول إن هناك عدة تفسيرات رئيسية لتعثر دورة التحالفات الصلبة، التي تستند إلى مصالح استراتيجية جوهرية في الشرق الأوسط، بما يجعل الإقليم لا تتوافر فيه صيغة “تحالفية مستقرة” بين أطراف من الأساس، وهو ما وصفته كتابات بـ”أشباه أحلاف” Quasi Alliances، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك قوى إقليمية تفضل مثل هذه التحالفات كإيران لأنها لا تضع سقفًا استراتيجيًا على خياراتها الخارجية. كما أن سلطنة عُمان تدعم بقاءها داخل مجلس التعاون الخليجي مع وجود تباينات نسبية مع دول الخليج في التعامل مع بعض القضايا الإقليمية، مثل: الأزمة اليمنية، والأزمة السورية، والعلاقة مع طهران، والتحول من مجلس تعاون إلى اتحاد خليجي.. وغيرها، على نحو دعا بعض التحليلات إلى إطلاق “نرويج الخليج” و”سويسرا الشرق الأوسط” على السياسة العُمانية. وفي هكذا سياق، يبدو تفسير تعثر التحالفات الصلبة بالإقليم محكومًا بعوامل خمسة.

فوضى إقليمية

التفسير الأول لتعثر التحالفات الصلبة بالإقليم هو السياقات الإقليمية المعقدة والسائلة، التي ارتبطت بالتحولات الثورية العنيفة بموجتيها الأولى (2011) والثانية (2019)، بما أدت إليه من تفكك دول وطنية وانهيار نظم سياسية، وصعود أدوار جيوش موازية، وتزايد تهديدات تنظيمات إرهابية، على نحو أوجد بيئة محفزة لاستمرار اشتعال الصراعات الداخلية المسلحة ذات الأبعاد الإقليمية، وما صاحبها من استقطابات متصاعدة، الأمر الذي أدى لمراجعات متواصلة في المحاور الإقليمية، والتي شهدت بزوغ الفاعلين المسلحين من غير الدول، وبصفة خاصة في بؤر الصراعات المسلحة، وتزايد الارتباطات الخارجية لهم على نحو يفسر التأييد السياسي والدعم الإعلامي والتسليح العسكري الذي يحصلون عليه من بعض القوى الإقليمية (مثل: جماعة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، والمليشيات الشيعية في سوريا والعراق).

وبناء عليه، تلجأ الدول إلى الدخول في أكثر من تحالف في توقيت واحد. ولعل ذلك يفسر، على سبيل المثال، انخراط السعودية في نمطين بارزين من التحالفات، هما التحالف العربي في إطار عملية “عاصفة الحزم” لاستعادة الشرعية في اليمن (مارس 2015)، والتحالف الإسلامي ضد الإرهاب (ديسمبر 2015)، بمشاركة أطراف مختلفة.

المتغير القيادي

أما التفسير الثاني فيتعلق بالتغير في هيكل السلطة السياسية؛ إذ يؤدي صعود قيادات إلى الحكم في دول إلى التغير في مدركاتها لمصادر التهديد التي تواجه الأمن الوطني، وأساليب التعامل معها، وما يتضمنه ذلك من إعادة النظر في الأحلاف القائمة أو بلورة أحلاف جديدة، تتهيأ إلى توزيع الأعباء والوفاء بالالتزامات من ناحية، وزيادة الفرص الناتجة عن الانخراط فيها من ناحية أخرى. ولعل ذلك ينطبق على تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في السعودية، وكذلك الحال بالنسبة لرئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” في العراق الذي يعد أكثر رؤساء الوزراء بعد الاحتلال الأمريكي رغبة في الانفتاح على المحيط العربي لموازنة نفوذ طهران دون أن يؤدي ذلك إلى معاداتها، وهو ما تعبر عنه تصريحاته بأن محور (القاهرة، بغداد، عمان) ليس موجهًا ضد أحد.

وكذلك تزايد الانفتاح السوداني على مصر بعد سقوط نظام الإنقاذ في عهد “عمر البشير” في أبريل 2019، الذي كان داعمًا لجماعة الإخوان، ولا سيما أن هناك مصلحة مشتركة بين القاهرة والخرطوم بعد تعثر الخيار التفاوضي مع إثيوبيا. كما أن رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” عمل خلال السنوات الماضية على تحييد خلافات أديس أبابا مع إريتريا، بل التوقيع على اتفاق سلام معها، ومحاولة إبعاد القاهرة عن الخرطوم في بعض المراحل، وتعزيز العلاقات مع عدد من دول الاتحاد الإفريقي في إطار سياسته المضادة للقاهرة والتحركات المصرية لحماية الأمن المائي. بعبارة أخرى، يؤدي التغير في قمة هرم السلطة إلى حدوث تحول في خيارات التحالفات الإقليمية بدرجة كبيرة.

خلاف الحلفاء

في حين يتمثل التفسير الثالث في التباينات الداخلية للأطراف المتحالفة؛ إذ تعد إشكالية وجود أو تنامي الخلافات بين الحلفاء في الشرق الأوسط أحد العوامل المفسرة لعدم صلابتها في ظل سياق إقليمي متأزم وقيادات سياسية تحمل مدركات مغايرة. ولعل ذلك يدفع بأحد الأطراف إلى البحث عن ائتلافات أو تحالفات جديدة، بديلة أو مكملة، على نحو يؤدي إلى ازدياد تعقيد خريطة التحالفات الإقليمية، وازدياد احتمالات جمود تلك الأحلاف أو تشرذمها أو حتى نهايتها وفقًا لأسوأ سيناريو محتمل في حال مراكمة الخلافات بين أطرافها، وعدم معالجتها وامتدادها إلى القضايا والتهديدات الأساسية المشتركة. بل برزت عملية ارتباط تشكيل التحالفات الإقليمية بالحفاظ على تماسك النظم الحاكمة في مواجهة التحديات الداخلية وتعزيز السلامة الإقليمية للدولة.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة مثلت “خصمًا وحليفًا” في الوقت نفسه لعدد من القوى الرئيسية في الشرق الأوسط، في مرحلة ما بعد الحراك الثوري في عام 2011، حيث دعمت قوى الإسلام السياسي للصعود إلى السلطة، وخاصة في مصر وتونس، ودافعت عن بقاء هذا الفصيل لحكم مصر لمدى زمني بعد قيام ثورة 30 يونيو 2013، الأمر الذي يُشير إلى توصيف العديد من الكتابات لواشنطن بأنها “حليف غير مستقر”. وتبعًا لهذا الاتجاه، قد يتحول هؤلاء الحلفاء في بعض الأحيان إلى مصادر تهديد أساسية، وإن كان بشكل غير معلن لأعضاء التحالف الآخرين.

استدارة الخصوم

ويختص العامل الرابع بمدى تأثر أطراف التحالفات الإقليمية باحتمالات التغير في السياسات الخارجية لبعض القوى الإقليمية، على نحو ما تعكسه إرهاصات أولية تتخذها تركيا تجاه عدد من الدول مثل مصر والإمارات والسعودية واليونان وفرنسا التي تدهورت علاقتها بتلك الأطراف خلال السنوات الأخيرة. وسوف تشهد المرحلة المقبلة اختبارًا لمدى تمسك الدول الأعضاء بالتزاماتها تجاه التحالف، وانخفاض مستوى مشاركتهم في الأنشطة التي تقتضيها الاستمرارية الفعالة للتحالف، ولا سيما بعد زوال الخطر المشترك. فالتركيز في هذا السياق على التهديد وليس القوة، مع الأخذ في الاعتبار أن التحركات التي قد تتخذها بعض القوى الإقليمية ذات الخصومة مع دول عديدة “تكتيكية” وليست “استراتيجية”.

وانطلاقًا من هذه الحقيقة، يفترض على أعضاء التحالف تجديد آليات تحالفاتهم بشكل مستمر، حتى يظل التحالف متماسكًا وفعالًا، وقيام الدول الأعضاء فيه بعملية تكيف ومواءمة مستمرة مع المستجدات التي تطرأ على الأوضاع في الإقليم، مع الأخذ في الاعتبار أن التحالفات تنشأ للدفاع عن المصالح الوطنية للأطراف المتحالفة في المقام الأول، ومتى توفرت وتوحدت الرؤى بشأنها زادت قوة وتماسك وصلابة الحلف، والدول تسعى عبر سياستها الخارجية إلى تحديد مصالحها، مع العمل على أن تكون لديها القدرة على حماية تلك المصلحة. فالدول لا تدخل في تحالفات من أجل غيرها، وإنما للدفاع عن أمنها ومصالحها وسيادتها وسلامة أراضيها، بما يؤدي إلى زيادة مناعتها من متغيرات الإقليم.

عجز الموارد

ويتمثل العامل الخامس في تفكير الأطراف المتحالفة بالإقليم في جني الثمار بدرجة تسبق إدراك عجز الموارد. وبالتالي، تدخل الدول في الشرق الأوسط، أو أي إقليم جغرافي آخر، في تحالفات عندما يتولد لديها إدراك بأن قاعدة مواردها الذاتية غير كافية للتعامل مع المشكلات التي تواجهها أو لتحقيق أهدافها، أو عندما تدرك أن قاعدة مواردها تحتاج إلى مصدر حماية من التهديدات الخارجية. فالدولة لن تبحث عن الدخول في تحالفات إلا عندما تُدرك عجز مواردها الذاتية عن تحقيق أهدافها. وعندما تواجه الدولة تلك اللا مساواة فإنها تبحث عن شركاء تحالف، سواء في تحقيق الأهداف المشتركة أو مواجهة الخصوم المشتركين أو كلاهما معًا. وكلما تزايدت الأهداف وتعدد الخصوم وتنوعت قضايا التفاعل، أمكن عمل مقايضة بمبادلة الأهداف بينهما، إذ لا تنظر كل الدول المنخرطة في تحالفات أو ائتلافات إلى كل القضايا بنفس القدر من الأهمية، وهو ما يؤدي إلى عدم فعالية هذا التحالف أو ذاك.

خلاصة القول، إن إدارة التحالفات صارت تشبه إدارة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وتحتاج إلى سياسات براجماتية متوازية من جانب أطراف التحالف؛ إذ إن وجود علاقة تحالفية لا يعني التطابق في الرؤى تجاه القضايا والصراعات والأزمات الإقليمية؛ بل يقتضي التعايش مع ما يمكن تسميته “المصالح الناقصة” التي فرضتها تحولات متسارعة على مدى عقد، شهد صعود وهبوط قيادات وحركات وتنظيمات ومليشيات. فالاختلافات داخل الأحلاف تمثل ظاهرة طبيعية وليست حالة استثنائية في الإقليم. غير أن التحدي الحقيقي يتمثل في اهتزاز صيغ بعض التحالفات التي تشكلت خلال الفترة الماضية عبر تحول أحد الأطراف من الحليف إلى الخصم في بعض الأحيان بشأن أحد الملفات التي تمثل مصلحة استراتيجية للطرف الحليف الآخر. وهنا، قد تصبح التحالفات غير فعالة inoperative في لحظة ما، ويُمسي توازن المنافع غائبًا، وهو ما يؤدي إلى إعادة الحسابات بشأن الانخراط في تحالف من عدمه.